التفكير العلمي "إن ظاهرة المعرفة البشرية، لهي بدون شك، المعجزة الرئيسية في الكون، فهي تطرح إشكالا لن نجد له حلا عما قريب"
كارل بوبر
مقدمة:
ينخرط الإنسان العادي في واقعه بوصفه المجال الحيوي،الذي يعيش فيه وطبقا لعلاقته بهذه الواقع تتكون له معارف شتى حول ظواهره، هذه الظواهر من ناحية أخرى هي موضوع لمعرفة علمية، بناء على ذلك قد يأخذنا الظن أن المعرفة العامية بداية تلقائية للمعرفة العلمية، من باب أن المعرفة هي امتلاك معلومات حول موضوع ما، لكن النظرة الفاحصة قد تكشف عن فروق جوهرية بين المعرفتين تدفعنا إلى طرح السؤال التالي: ما الذي يميز المعرفة العلمية عن المعرفة العامية؟
1/ المعرفة العلمية عميقة:
أهم ميزة للمعرفة العلمية، أنها عميقة، لا يكتفي فيها العالم بالواقع العفوي كما يبدو في الشعور المباشر، بل يبني الوقائع ويجعلها قابلة للدراسة العلمية، تكتسب المعرفة العلمية عمقها من كونها مقصودة ومبينة عكس المعرفة العامية التي تعد عفوية تلقائية تأتي استجابة للواقع المباشر، وكون المعرفة العلمية عميقة مبنية، منظمة فهي تخالف وتناقض المعرفة العامية، التي تنقل لنا الأرض بوصفها مستوية، ساكنة.
2/ امعرفة العلمية موضوعية:
يقصد بالموضعية تناول الظواهر كما هي في الواقع بعيدا عن أي اعتبار ذاتي سواء كان ميلا أو رغبة أو هوى في النفس أو كان إسقاطا لاعتقاد أو تخمين مسبق أو ثقافية شخصية، معنى ذلك أن المعرفة العلمية لم تعد علمية إلا أنها موضوعية ،يتخلص فيها العالم من كل الأحكام المسبقة خلافا للمعرفة العامية التي تتميز أساسا بأنها ذاتية نفعية تترجم ميولنا واهتماماتنا، فالتصنيف الذي ينظر إلى الكائنات الحيوانية من جهة أنها نافعة أو ضارة يترجم تماما هذه النظرة الذاتية بينما التصنيف العلمي يقوم على صفات موضوعية كشكل الجسم.
3/ المعرفة العلمية كمية:
لم تكتسب المعرفة العلمية طابعها العلمي، إلا حينما اعتمدت على التكميم، وعليه يقال "أن تقدم العلم هو تقدم القياس" لقد مر بنا كيف أن ترتيب العلوم من حيث الدقة يخضع لمدى اعتمادها على الرياضيات، بينما المعرفة العامية، معرفة كيفية يقنع فيها الرجل العادي بالوصف الكيفي، فالماء كيف على لسان شاربه أو كيف عند لامسه.
4/ المعرفة العلمية كلية:
أهم ميزة للمعرفة العلمية هي كونها تصاغ في شكل قوانين عامة، فالقول أن الماء سائل يتركب من ذرتين من الهيدروجين وذرة واحدة من الاكسجين لا يقتصر على العينة التي كانت موضع دراسة وتحليل بل تشمل كل المياه، في الماضي والحاضر والمستقبل، بينما المعرفة العامية أشتات من الخبرات لا رابط بينها، وهذا يعود أصلا لأنها نفعية فمعرفة الفلاح لسقوط المطر مرتبطة بوصفه خيرا عميما وهو ليس نفس الحكم في موقع آخر كوقت جني بعض المحاصيل...الخ.
نتيجة: من التمييز السابق نصل إلى أن المعرفة العلمية ضرب من التفكير يتناول ظواهر الواقع وفق منهج صارم ودقيق يهدف إلى كشف القوانين الدقيقة والموضوعية والكلية التي تحكم الظواهر.
مشكلة نشأة وتطور المعرفة العلمية
أ. ضبط المشكلة: تكشف الخصائص السابقة أن المعرفة العلمية معرفة متميزة تختلف عن المعرفة العامية، فهل يعني ذلك أن المعرفة العلمية منفصلة في نشأتها وتطورها عن المعرفة العامية أم تتصل بها رغم من بينهما من تفاوت وتباين؟ بصيغة أوضح ما حقيقة تطور المعرفة العلمية؟ هل تطورت متصلة بالمعرفة العامية أم منفصلة عنها؟
ب. التحليل:
1. النظرية الاتصالية [التراكمية]: يعتقد الكثير من مؤرخي العلم أن المعرفة العلمية لم تنشأ من عدم، بل كانت حصيلة لتاريخ كبير من التطور كانت بموجبه المعرفة العلمية ذات يوم مجرد معرفة عامية وخبرات شخصية ذاتية، نقرأ مثل هذه الفكرة عند جيمس فريزر الذي يعتقد "أن العلم نشأ في أحضان السحر" فالكيمياء التي أسس لها لا فوازية حصيلة لجهود الأوائل من المشعوذين والفلك الحديث نتيجة للتنجيم، وهكذا.
إن أصحاب هذه النظرية يقرأون تاريخ العلم، كما لو كان تاريخيا خطيا متصلا، فهو سلسلة متصلة الحلقات وما المعرفة العلمية سوى حلقة من هذه الحلقات لقد دأب أوجست كونت على القول أن المعرفة البشرية مرت بثلاث مراحل متصلة أولاها مرحلة التفكير اللاهوتي وثانيتها مرحلة التفكير الميتافيزيقي وثالثتهامرحلة التفكير الوضعي التي نشأ العلم في أحضانها إن أصحاب هذا الاتجاه يذهبون إلى أبعد حينما لا يرون فرقا جوهريا بين المعرفة العلمية والمعرفة العامية إذ يقول ماكس بلانك: "لا فرق في الطبيعة بين الاستدلال العلمي والاستدلال العادي اليومي، وإنما الفرق بينهما في درجة النقاء والدقة وهذا شبيه شيئا ما، بالاختلاف بين المجهر والعين المجردة".
نفهم من موقف هذه النظرية أن العلم امتدادا للمعرفة العامية سواء استقرأنا التاريخ أو نظرنا إليهما في بنيتها.
النقد: يصدق هذا الموقف ويبدو أكثر تماسكا إذ نظرنا إلى العلم من الخارج أي إذا اكتفينا بالتأريخ له بغض النظر عن بنيته وتركيبه الداخلية، فلو تسلحنا بنظرة نقدية إلى المعرفة العلمية لظهر لنا أن النظرية العلمية تمتلك بنية متميزة أساسا فما بالك لو وضعنا المعرفة العلمية إزاء المعرفة العامية.
2. النظرية الانفصالية [نظرية القطيعة الإبستمولوجية*]:
في المقابل للنظرية السابقة، تتجه نظرية القطيعة إلى تأكيد الانفصال المطلق بين المعرفة العلمية والمعرفة العامية لسبب وجيه أن بنية المعرفة العلمية تختلف جوهريا عن بنية المعرفة العامية ، فمن أين لها بالصلة بها إذا كانتا من طبيعتين مختلفتين يقول باشلار: "لا بد لنا أن نقبل القطيعة بين المعرفة الحسية والمعرفة العلمية... إن النزوعات العادية للمعرفة وهي تستمد حوافزها من النزعة النفعية والنزعة الواقعية المباشرتين... إلا خاطئتين"
إن سيطرة النزعة النقدية الإبستمولوجية امتد إلى علاقة العلم بالعلم إذ يؤكد إدجار موران (e/morin) بالقول: "إن تاريخ المعرفة العلمية ليس فقط تاريخ تراكم وتوسع، وأنه أيضا تاريخ التحولات والقطائع..." فإذا كان ظهور فيزياء انشتاين ثورة في علم الفيزياء فلأنها تختلف من حيث المبدأ عن فيزياء نيوتن فإذا كان هذا حال العلم مع العلم فالأولى أن تكون القطيعة بين العلم والمعرفة العامية إن المعرفة العامية بخصائصها (ذاتية، كيفية، معطاة) تشكل عائقا أمام المعرفة العلمية ينبغي لها أن تبدأ بإزاحتها وهدمها.
نقد: كان للنظرة الإبستمولوجية أثرا كبيرا في التحول إلى النظر إلى العلم من كونه كاشفا واضحا، موضحا؛ إلى معرفة قابلة للنقد والمحاكمة في مبادئها وفروضها وفي نتائجها ومع ذلك فمنطق التطور يقتضي شكلا من الاتصال في المعارف على أن الاتصال لا يعني بالضرورة تحول المعرفة العامية إلى معرفة علمية بل يمكن أن يكون الاتصال بإعادة النظر.
نتيجة: مما سبق نستنتج أن موقفنا من إشكالية تطور العلم يختلف باختلاف الزاوية التي ننظر منها إلى العلم فإذا كنا ننظر إليه من الخارج بوصفنا مؤرخين فالأقرب أنه امتداد لمعارف سابقة عليه أما إذا التزمنا النظرة الابستمولوجية فالأقرب أن للمعرفة العلمية بنية خاصة متميزة في المبدأ والمنهج والنتائج.
خصائص الروح العلمية:
لكل مجال معرفي مواصفات وخصائص يختلف بها عن مجال آخر، فالمعرفة العلمية تفكير متميز في موضوعه ومناهجه ونتائجه، وهذا يعني أن الباحث في هذا الحقل أو ذاك لا يكون بارعا في ميدان بحثه وذاك ما نسميه بالضبط الروح العلمية في ميدان العلم والروح الفلسفية في ميدان الفلسفة والروح الفنية في ميدان الفن والسؤال المطروح هو ما هي خصائص الروح العلمية؟ ما هي الصفات التي تجعل العالم عالما؟.
يمكن تصنيف خصال وخصائص الروح العلمية إلى ثلاثة أصناف متكاملة:
أ. خصائص وصفات أخلاقية: يتميز العالم الحق بجملة من الصفات الأخلاقية، ضرورية في البحث العلمي، تزرع فيه القابلية للبحث بروح عالية لذكر منها التواضع للبحث العلمي والعلماء فمهما كانت قدرات الباحث وإمكانياته فهو يشعر بأنه مازال في بداية الطريق ويلزمه بذل جهد أكبر لتحقيق الأفضل كما أن الصبر ضروري في البحث العلمي لأنه ببساطة شاق وعسير ويقتضي تضحيات جسام بالنفس والمال والجهد زيادة على ما فيه من مخاطرة ومغامرة لا يقوى عليها والأمانة من المفروض أن يتحلى العالم بدرجة عالية من الصدق أثناء البحث، فلا يغش ولا يصمت على خطأ يتعلق بالعلم وهو لا ينبغي شيئا غير العلم.
ب. خصائص وصفات نفسية انفعالية: ونحصرها أساسا في الميل والرغبة، التي تسكن الباحث وتدفعه إلى مواصلة العمل يقول ريني بورال: "فما هو مصدر هذه القدرة على الانتباه؟ غنه الاهتمام الذي يحرك الباحث ومم يستمد المبدع بالفعل هذه الطاقة الضرورية إن لم يستمدها من حياته العاطفية؟".
ج. خصائص وصفات عقلية: إذا كانت الخصائص السابقة مشتركة بين المبدعين فإن العالم يتميز على وجه الدقة بجملة من الخصال العقلية نذكر من هذه الصفات أهمها كالموضوعية ونعني بذلك أن العالم بطبعه ميال إلى النزاهة ورؤية الواقع كما هو، فهو حيادي يفضل بين أهوائه وميوله ومعتقداته وبين موضوع بحثه زيادة على الروح الوضعية ومعناه أن العالم يميل إلى ربط الظواهر بأسبابها الواقعية ويرفض تلقائيا أي تبرير ميتافيزيقي أو غيبي للظواهر ذلك أن الظواهر ترتبط بأسباب واقعية وموضوعية قابلة للتجسيد، كما ينبغي للعالم أن يتحلى بروح الدقة فهو ميال إلى التعبير الكمي الدقيق ويرفض الوصف الكيفي، العام للظواهر وزيادة على ذلك الروح الحتمية والروح النسبية في آن واحد، فالروح الحتمية تعني أن الظواهر ترتبط بأسبابها بشكل ضروري ومتى توفرت نفس الأسباب أدت إلى نفس النتائج أما الروح النسبية فتعني أن نتائج العلم مهما كانت يقينية فإنها نسبية قابلة للتغير والتطور.