الطبيعة و الثقافة الطبيعة و الثقافة
تمهيد:
الاهتمام بالإنسان قديم قدم التفكير الإنساني، لكن شكل الاهتمام لم يكن واحدا، ففرق بين اهتمام أسطوري و آخر فلسفي و ثالث علمي، و أيا ما كان الاختلاف فالاهتمام بالإنسان يكشف عن تعقيد سلوكه، و من مظاهر هذا التعقيد أنه يتألف من عناصر فطرية طبيعية جاهزة وأخرى مكتسبة ثقافية اجتماعية، و لو أخذنا على سبيل المثال "الأكل" فهو في جوهره عملية حيوية بيولوجية طبيعية، و لكن طريقة الأكل مكتسبة من المحيط الاجتماعي فهي تختلف من مجتمع إلى آخر و هي تعبر عن جانب حضاري معنى ذلك أن الطبيعة تمثل الأصل الثابت و القدر المشترك بين الناس بينما الثقافة كما يبدو متغيرة، هذه المفارقة الأولية تضعنا أمام تساؤلات منها: ماذا يراد أصلا بالطبيعة و الثقافة ؟ هل يكفي أن يقال أن الطبيعة ثابتة و الثقافة متغيرة حتى يتضح المعنى ؟ ثم ما هي العلاقة بين ما هو طبيعي و ما هو ثقافي ؟ هل هي علاقة تكامل و انسجام بمعنى أن الثقافة تكمل و تذهب ما تمدنا به الطبيعة أم أن العلاقة بينهما علاقة تضاد بمعنى أن الثقافة تقاوم و تواجه كل ما هو طبيعي؟
مفهوم الطبيعة:
أ- الفهم العامي: إن كلمة طبيعة في مفهومها العامي هي كل ما هو مشاهد و مرئي كالمنظر الطبيعي كما تعني كلمة طبيعي العادي كأن يقال: هذا أمر طبيعي، أو هذا أمر عادي، غير أن الفهم العامي ضيق و سطحي و ذاتي.
و هي صفات مخالفة للمعرفة العلمية أساسا فهو ضيق لأنه يحصر الطبيعة في البيئة الجغرافية و سطحي لأنه لا ينفذ إلى حقيقة الطبيعة خاصة حينما يقع الخلط بين ما هو طبيعي و بين ما هو عادة، ثم هو ذاتي لأنه ما أفهمه أنا من الطبيعي العادي قد لا يفهمه غيري.
ب- الفهم اللغوي: الطبيعة في اللغة مشتقة من الفعل طبع، و مصدرها الطبع بمعنى الأصل و الفطرة و الجبلة.
أما في اللغة الأجنبية فكلمة ذات الأصل اللاتيني فهي مشتقة من الفعل بمعنى ولد و من ثمة فالطبيعة تعني ما يولد الإنسان و هو مزود به. إن فهما كهذا على أهميته يعاني الغموض فماذا ينبغي أن نفهم بالطبيعة الإنسانية التي ولد بها ؟ هل نعني بها الطبيعة الحيوانية الحسية أم الطبيعة الإنسانية العاقلة ؟ ثم أليس هنالك تعارضا بينهما ؟
ج- المفهوم الاصطلاحي:
إذا بحثنا كلمة طبيعة عند أهل الاصطلاح لم نجد لها فهما واحدا، بل يصل الاختلاف إلى حد التناقض زد على ذلك استخدامها الواسع فنقول: علوم الطبيعة و نعني شيئا غير ما نعنيه حينما نقول: العلوم الطبيعية و في الرياضيات نقول مجموعة الأعداد الطبيعية و هكذا... و من الاستخدامات المختلفة للمصطلح نذكر بعض الأمثلة: فالطبيعي هو
كما هو فطري، غريزي، عفوي، أي كل ما يتعارض مع ما جرى اكتسابه و يقال المصطلح على العقل بنحو خاص يقول ديكارت: "لا شك أن ما تعلني إياه الطبيعة يتضمن حقيقة معينة". بينما يذهب البعض الآخر إلى أن الطبيعة تخالف تمام حقيقة العقل فالطبيعة عمياء و العقل واع.
كما أن الطبيعة تطلق على النظام المثالي فقوانين الطبيعة هي التي ينبغي أن نحاكيها ونماثلها يقول دولباج: "أيتها الطبيعة، يا سيدة الكائنات كلها، و أنتن يا بناتها المعبودة الفضيلة، العاقلة، الحقيقة، كن آلهتنا الفريدة إلى الأبد". بينما هنالك من ينظر إلى الطبيعة على أنها ناقصة و ينبغي للإنسان أن يتغلب على ما بها من نقص بما يبعه عقله من نظام، و من مثل، و من قيم.
زد على ذلك أن البعض يستعمل الطبيعة مساوية لله فكل ما في الطبيعة تجلي إلهي بينما يجعلها البعض الآخر مضادة للوحي و لما هو إلهي.
نتيجة:
يمكن أن نستنتج من التحليل السابق ما يلي:
1/ لا ينبغي التفكير في تعريف نهائي للطبيعة.
2/ من غير الممكن تصنيف معاني كلمة طبيعة و ترتيبها من الزاوية الدلالية في سلسلة خطية، فهي تبدو قد تكونت شعاعيا في عدة اتجاهات.
3/ يمكن تحديد بعض الخصائص التي تميز الطبيعة فهي أولية، سابقة، فطرية، غريزية، ثابتة، بدائية، وظيفتها حيوية بالدرجة الأولى.
مفهوم الثقافة:
أ- الفهم العامي: قد ينظر الإنسان العادي إلى الثقافة على أنها سعة إطلاع وكثرة معلومات من غير تخصص و لا تعمق، غير أن فهما كهذا لا يكشف المعنى الحقيقي للثقافة فهو سطحي لا يأخذ إلا بالمظاهر ثم هو ضيق يجعل الثقافة حكرا على البعض من الناس في حين أن الثقافة ظاهرة اجتماعية بمعنى المعنى العامي يعكس نظرة عنصرية و يترجم مفهوما أفرزته العقلية الأوربية المتعالية عن غيرها من الثقافات.
ب- الفهم اللغوي: كلمة ثقافة مشتقة من الفعل ثقف فيقال ثقف الرجل أي صار حاذقا و الرجل الثقف الحاذق الفهم ذو الفطنة و الذكاء، أما في الأصل اللاتيني فكلمة تعني إصلاح الشيء وتهذيبه و إعداده للاستعمال و منه اشتقت كلمة و التي تعني إصلاح الأرض و العناية بها. رغم أهمية التحديد اللغوي للثقافة إلا أنه لا يكشف عن مكونات الثقافة.
ج- المفهوم الاصطلاحي: اختلف المفكرون في تحديد الثقافة فمنهم من جعلها مساوية للحضارة و منهم من أعطاها معنى روحيا فقط، إن الاختلاف في تعريفها لا يتوقف عند محتواها ماديا كان أو روحيا بل يمتد إلى كيفية النظر إليها، هل هي ثابتة أم متغيرة ؟ ثم ما معيار المفاضلة بين ثقافة و أخرى ؟ لا شك أن الإجابة على هذه الأسئلة تتأثر بمجال الدراسة فمفهوم الثقافة في إطار علم الاجتماع يختلف عن مفهومها في إطار علم النفس ففرق بين الثقافة كمكون للشخصية و بين الثقافة كتشكيل اجتماعي و فرق بين الثقافة من منظور ماركسي و الثقافة من منظور بنيوي فالماركسية لا ترى في الثقافة سوى انعكاس اجتماعي يتأثر بالصيرورة التاريخية التي يحركها العامل الاقتصادي و من ثمة كلما تقدم التاريخ كانت الثقافة أكثر نضجا هذه الرؤية مرفوضة عند البنويين فالثقافة عندهم بنية كلية لا معنى فيها للتقدم. و مع ذلك يذهب الأنثروبولوجيون إلى وصف الثقافة بأنها كما يقول تايلور: "الثقافة أو الحضارة بمعناها الأثنوغرافي الواسع، هي ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة و العقائد و الفن و الأخلاق و القانون و العرف وكل القدرات و العادات التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع".
نتيجة: يمكن أن نستنتج من التحليل السابق ما يلي:
1/ أن التفكير في إعطاء تعريف نهائي للثقافة أمر متعذر.
2/ الاختلاف في تعريف الثقافة مبرر فهو خاضع لتطور المعرفة و خاصة في المجال الإنساني.
3/ يمكن أن نقارب مفهوم الثقافة بالنظر إلى بعض خصائصها، فالثقافة ظاهرة إنسانية اجتماعية و هي متغيرة في الزمان والمكان ثن أن الثقافة تحمل طابعا حضاريا و عليه فالثقافة كل و تشكيل اجتماعي فريد و متميز.
إشكالية العلاقة بين الثقافة و الطبيعة:
ضبط الإشكالية: يبدو من التحليل السابق أن الطبيعة تختلف عن الثقافة رغم صعوبة تعريفهما غير أن الصلة بيم ما هو طبيعي و ما هو ثقافي قوية فهما يشملان السلوك معا فالإنسان يتوفر على إمكانيات حبته بها الطبيعة و يزيد عليها بمكتسبات ثقافية و اجتماعية و لكن السؤال الذي يطرح عادة هو: كيف ينبغي أن نتصور العلاقة بين ما هو ثقافي و ما هو طبيعي ؟ هل الثقافة تعمل على تهذيب ما هو طبيعي بمعنى أن مهمة الثقافة هي على وجه التحديد تنمية و تكملة ما هو طبيعي أم أن مهمة الثقافة أكبر من حصرها في ذلك بل مهمتها إعطاء معنى حضاري إنساني للحياة وعليه فمهمتها هي مواجهة الطبيعة ومقاومتها باعتبارها حيوانية بدائية غاشمة ؟
أ- الثقافة امتداد للطبيعة:
يذهب بعض الفلاسفة إلى أن الثقافة امتداد للطبيعة أو هذا ما ينبغي لها أن تكون على الأقل، لقد ذهب روسو في كتابه أصل التفاوت إلى أن الأسلم للإنسان هو أن يستجيب لصوت الطبيعة و للعاطفة الطبيعية التي هي أساس بقاء النوع الإنساني يقول: "إن الجنس البشري كان يصير إلى الفناء لو أن بقاءه لم يكن معلقا إلا على قياسات رجال المنطق و براهينهم" و في نفس الاتجاه يؤكد فرويد أن الثقافة مهما كانت إبداعية فهي في المحصلة إعلاه لرغبة مكبوتة ذات أصل طبيعي بالأساس و نفس المنحى نكتشفه مع يوسف الحوراني الذي يقول في كتابه الإنسان و الحضارة: "لا يبدو أننا بحاجة كبيرة إلى العقل كي يكون لنا حضارة، فنحن نحس ونتعاطف وفق دوافع طبيعية بريئة".
إن حجة هؤلاء ذات مظهرين، الأول أن مكونات الثقافة ذاتها طبيعية و من ثمة لا ينبغي للثقافة إلا أن تسير على وفاق مع الطبيعة و أما المظهر الثاني فمنطقي فإذا كانت مهمة الثقافة هي تحقيق التكيف فالأولى أن تسير ملائمة للطبيعة. على أن روسو ذهب إلى أبعد حينما تحامل على الثقافة لأنها ببساطة أفسدت الطبيعة النقية.
إن النقد الذي يواجه به هؤلاء يختصره أوجين شريدر في كتابه البيولوجيا الإنسانية حينما يصور ضحالة التصور البيولوجي ذلك أن التقدم الإنساني سار ببطء شديد يوم أن كان التقليد شفهيا و لكنه تسارع و ازداد اتساعا مع اختراع المطبعة... ثن أن الموقف البيولوجي يقزم الثقافة و يختزلها في مجرد عناصر طبيعية.
ب- الثقافة تقابل الطبيعة:
في المقابل سارت جل العقلانيات إلى تمجيد الثقافة وإعطائها دورا يواجه و يضاد كل ما هو طبيعي بحكم أنه بدائي حيواني غريزي أعمى لا يساير الإبداع و التميز الإنساني فهذا كانط يرفض أن يؤسس الأخلاق على أساس من الطبيعة البشرية القائمة على اللذة كما أن الماركسية ظلت ترى التقدم الإنساني مقرونا تاريخيا بمدى سيطرة و تحكم الإنسان في الطبيعة فكلما تغلب الإنسان على الدوافع الطبيعية الفطرية الساذجة و أقواها الأنانية و حب التملك كلما أصاب التقدم الذي لا يحصل في المرحلة الشيوعية يوم يحل الوعي محل الطبيعة، إن الإنسان بثقافته يعيد تشكيل العالم و تشكيل نفسه من خلال مقاومة كل ما هو طبيعي.
إن المبررات التي يستند إليها هؤلاء كثيرة نذكر منها التاريخية فالإنسان تقدم لأنه يمتلك ثقافة ومنها الواقعية كلما امتلك الإنسان ناصية العلم- و هو مظهر من مظاهر الثقافة- كلما تقدم أكثر من خلال تحكمه في الطبيعة و سيطرته عليها، ثم من الناحية النظرية يظهر التمايز بين الثقافة و الطبيعة تفوق الأولى و بقاء الثانية ثابتة. .