العنف والتسامح
ما هو العنف؟ ماهي اسبابه؟ ماهي تبريراته ((تعليلاته))؟ ما هي سلبياته؟ وهل هو قدر الانسان المحتوم الذي لا يمكن رده او معالجته؟
ما هو التسامح؟ ماهي قيوده او شروطه(( خصائصه))؟ وما الحكمة من فك قيوده(( نقد مذهب تقييد التسامح بشروط))؟
ما هو العنف((تعريفه))؟
هو كل عمل يضغط به شخصا ما على ارادة الغير لسبب او لآخر.وهذا العمل يستوجب استعمال القوة.
وفي تعريف آخر العنف يكمن في استخدام القوة من اجل الضغط على الغير، مع نفي استقلاله وحريته ووحدته الجسدية الفيزيائية مع تعريض حياة الغير للهلاك دون اكتراث به.
ومن الآثار التي يتركها العنف هو التسلط على الغير والنيل من حرمة حياته المادية والمعنوية.
والعنف اذن يصبح نوعان: عنف مادي كالتعدي على جسد الغير بالضرب والجرح والقتل، ومعنوي كالأساءة الى شخص الغير بسب شخصيته وافكاره ومعتقداته وطريقة حياته.
ماهي أسباب العنف؟
هو ظاهرة معقدة تحكمها عوامل واسباب مختلفة ومتداخلة، وهو يشكل موضوع اهتمام لدى علم النفس وعلم الاجتماع وعلم البيولوجيا وعلم الجريمة. وتصنف اسبابه الى ما يلي:
الاسباب الاجتماعية والاقتصادية
فقر الاسرة وتعدد افرادها، اليتم وانعدام تربية الوالدين، التوجيه التربوي العائلي او الاجتماعي غير المسؤول او العشوائي. اصدقاء الوسط الاجتماعي للفرد.....الخ.
الاسباب السياسية والثقافية
التسلط في الحكم باسم القانون وباسم حفظ الامن يولد العنف.
تقييد الحريات الفكرية والسياسية والعقائدية يولد العنف.
انتشار المظالم بين الناس وغياب العدل يولد العنف.
الاحتلال العسكري لشعب ما ومصادرة حقوقه وممتلكاته وهويته يولد العنف.
الترويج للعنف او الحث عليه بطريقة غير مباشرة واظهار ممارسيه على انهم ابطال وشرفاء من خلال الافلام والمسلسلات والقصص والروايات عمل ثقافي قد يولد العنف لدى الجمهور الذي يشاهد هذه الافلام والمسلسلات او يقرأ هذه القصص والروايات.
الاسباب الاخلاقية
الفراغ الروحي المتمثل في خلو قلب الانسان من الايمان يولد لديه عجزا عن مواجهة الحياة وواقعها فيولد ذلك العجز لدى ذلك الفرد عواطف اليأس ((فقدان الامل في الحياة)) والقنوط والاحباط والحقد وحب الانتقام والتطرف وهي اسباب قد تولد ظاهرة العنف.
انهيار القيم والفضائل الاخلاقية والازدراء بقيم اساسية في الانسان مثل قيم الشرف والكرامة والصدق والاستقامة والتسامح واستبدالها بقيم ورذائل يبغضها الجميع وتقديمها على انها القيم الحقيقية الواجب العمل بها امر قد يولد العنف.
الاسباب النفسية
وهي كثيرة منها الحسد والغيرة المرضية وفقدان الامل والاحباط والحرمان والكبت وغيرها كثير اسباب قد تؤدي بالشخص الى تعاطي العنف.
وفي هذا السياق يركز الالماني فرويد على عملية الكبت، فيرى ان الضغط الاجتماعي يتحول نفسيا الى كبت لاشعوري لدى الفرد ليعود -متى اتيحت له الفرصة- في شكل سلوك عدواني ((عنف))ضد كل ما يمكن اعتباره المسؤول عن معاناته وقتلهم ، وقد يصل به الامر الى قتل نفسه ايضا ((بالانتحار)) تعبيرا عن رفضه للواقع الذي يضغط عليه، او هروبا واستسلاما منه اليه.
ماهي تبريرات العنف او ماهي تعليلاته؟
• العنف لدى الفيلسوف اليوناني القديم هيروقليدس هو اصل العالم ومحركه، فالعنف برايه خصوبة يولد الحياة ويولد الموت على حد سواء كي تستمر الحياة.
• العنف مصدر السلطة أي العنف اساسه القوة ولا يمكن لاي سلطة ان تفرض نفسها على غيرها دون قوة العنف سواء تعلق الامر بالمجتمع الحيواني او بالمجتمع الانساني. وهو مبدأ قال به الايطالي ماكيافيلي في القرن 16 كوسيلة لاستقرار الحكم .
• هو قصد عدواني الهدف منه الدفاع عن النفس واثبات الذات ونفي الآخر الذي اكرهه او احقد عليه.
• العنف ميل عدواني طبيعي في الانسان حسب الالماني سيغموند فرويد مثله مثل باقي الحيوانات لان الحياة برايه صراع مستمر بين غريزة الحياة والبناء ((ايروس)) وغريزة الموت والفناء ((ثناطوس)) فهو ميل طبيعي تلقائي لدى كل عضوية فهو يحيا ليموت. ولذلك فأن اصل العنف براي فرويد هو ذلك الصراع الذي ينشأ بين غريزة حب الحياة والبناء مع غريزة حب الموت والهدم والفناء. وما دام العنف طبيعيا في الانسان فهو ظاهرة يستمر وجودها ولا يمكنها ان تتوقف عن الظهور.
• العنف اصل البناء رغم انه يسبب الفناء والهدم: معناه ان العنف يولد مجتمعا جديدا وذلك عن طريق تصحيح الواقع المتردي لبناء مجتمع تتأصل فيه قيم العدل والمساواة، وهو مبرر قال به احد مؤسسي النظرية الاشتراكية ((انجلز)) أي هناك عنف سلبي غير عادل تمارسه الدولة الراسمالية، وفي مقابلها هناك عنف ايجابي عادل وبناء يهدف الى تصحيح الواقع الرديء واعادة بنائه بصورة تتناسب اكثر مع قيم الخير والحق والعدل والمساوة في الحياة من خلال النظام السياسي الاشتراكي.
• العنف وسيلة اخلاقية في أساسها مادام يقف في وجه الاضطهاد والظلم ومن حيث انه وسيلة تسعى الى استرجاع الحقوق المغتصبة الى اصحابها وتحقيق العدل بدل الظلم والاضطهاد. وفي هذا السياق يرى الفرنسي جون جاك روسو ان العنف وسيلة ضرورية فهو شر من اجل غاية سامية فيقول((ليس لنا فقط الحق بل من الواجب ان نثور اذا اقتضت الضرورة ذلك، فهناك نوع من الاخلاقية يدعونا الى حمل السلاح في اوقات ما.)) وفي نفس السياق يقول ماوتسي تونغ(( نقوم بالحرب من اجل السلم لا الحرب من اجل الحرب، والعنف لا تبرره الغاية السامية فقط، وانما يبرره ايضا الدفاع عن النفس.))
• بعض من المسلمين يبررون اللجوء الى العنف كوسيلة ضرورية لأعلاء كلمة الله وذلك عن طريق الجهاد في سيبل الله، او استخدام العنف لبناء دولة اسلامية. ولكن المسلمين اليوم لا يتفقون في استخدام العنف للوصول الى الحكم او للثورة ضد الحكم او لبناء دولة اسلامية.
سلبيات العنف
العنف لا يولد الا العنف عاجلا ام آجلا، أي الذي يستخدم العنف سيجد امامه مقاومة ربما تكون اعنف منه، وربما سيكون الرد والمقاومة فورية عاجلة او متأنية وآجلة غير فورية.
بدعوى الدفاع عن النفس يصبح العنف مبررا لارتكاب الجريمة ومبررا للافلات من العقاب.
العنف يعبر عن تجرد الانسان من انسانيته ومماثلته للبهيمية الحيوانية في ابشع صورها.
هل العنف هو قدر الانسان المحتوم الذي لا يمكن رده او معالجته؟
العنف سلوك استثنائي في حياة الانسان، وبالتالي ليس قدرا عليه، وانما هو ظاهرة تولدت نتيجة مجموعة من العوامل والظروف-كما راينا في اسبابه سابقا- وعلى هذا الاساس يمكننا محاربته متى عرفنا هذه العوامل والظروف التي تغذيه، ومعرفة العلة كفيل بالقضاء على المعلول او كفيلة بالبحث عن علاجه بالحكمة الانسانية التي تقابل العنف باعتباره مذموما بفضيلة اسمها التسامح، فما هو التسامح؟
ما هو التسامح (( تعريفه))؟
التسامح هو الموقف الذي يبيح لشخص ما قبول اساليب الآخرين في التفكير والحياة رغم اختلافها عن اساليب ذلك الشخص الخاصة به.
او هو الموقف الذي يبدي فيه شخصا ما تساهلا او تحملا لمفعول مؤثر خارجي في حالة انزعاجه منه مثل تحملنا لسلوكات بعضنا البعض فهو تسامح.
التسامح اذن هو ليس تراجعا ولا تخاذلا ولا خوفا وانما هو اسلوب آخر في محاربة الشر والعنف دون تغذيته، انه يمثل استرتيجية اخرى للتحكم في المعركة. فاذا كان العنف قانون البهيمة، فان التسامح هو قانون الجنس البشري. فهو شكل من اشكال النضال الاكثرنفعا ونجاعة من قانون القصاص بالمثل الذي يقابل الشر بالشر، فيضاعف الشر مرتين بدل وقفه بفضيلة التسامح.
قيود التسامح او شروطه او(( طبيعته اوخصائصه))
• لايمكن للتسامح كفضيلة اخلاقية ان يكون دون حدود او قيود والا فقد قيمته، ومن الحجج التي تبرر ضرورة تقييده ما يلي:
• فضيلة التسامح فضيلة اخلاقية سامية، لكنها في المقابل اذا كانت لاتملك نظاما ولا حدا تقف عنده قد تنقلب الى نقيضها وهو اللاتسامح ، تمام مثل الحرية كقيمة اخلاقية فانها قد تتحول الى فوضى في غياب حدود وقيود لها. هذه الخاصية تنطبق عليها الحكمة المعروفة القائلة ((كل شيء يزيد عن حده ينقلب الى ضده)) لذلك لزم على التسامح ان يرسم لنفسه قيودا وحدودا لا يتعداها والا فقد قيمته كفضيلة وكقيمة اخلاقية بين الناس. ولذلك ليس من المعقول وباسم التسامح والديمقراطية ان نصغي او نتحاور مع اعداء الديمقراطية، كما انه ليس من المعقول ان نتسامح مع جماعة اللاتسامح((العنف)) باسم التسامح.كما انه ليس من المعقول ان نسمح في حقوقنا لغيرنا الذي اخذها ظلما وزورا باسم التسامح.
• التسامح تاريخيا ثبت انه عالج وحارب مشكلة الحقد في المجال الديني في اوروبا في القرنينالسادس عشر والسابع عشر، وتوصل الفكر الاوروبي في القرن الثامن عشر الى الاتفاق على الحدود التي يجب ان يتوقف التسامح عندها، فتم الاتفاق بعد حروب دينية دامية عن طريق التسامح المشروط على تقرير حرية الاديان في 04 اوت1789م.
• القيم الاخلاقية قيم نسبية لاتثبت على حال، فكذلك التسامح اذا كان مقبولا وبشدة في مجتمع وثقافة ما، فانه مرفوض وممنوع وبشدة في مجتمع وثقافة اخرى،فالتسامح اذن نسبي نسبة الى الضوابط الاجتماعية والتاريخية والعقائدية التي تتحكم فيه، فترسم له حدودا وقيودا لا ينبغي تجاوزها كيفما كانت الاحوال والظروف.
• لايمكن تفعيل قيمة التسامح بين طرفين دون تراض اوتنازل بينهما، أي لايمكن الحديث عن التنازل او التسامح من طرف واحد، والطرف الآخر باق على موقفه دون تنازل او تسامح، فلا تسامح اذن الا اذا كان مطلب ومطمح كلا الطرفين.
• من خلال ما سبق نستنتج ان التسامح لايكون ذا قيمة الا اذا وضع لنفسه حدودا وقيودا يقف عندها، فالتسامح اذن مشروط بنبذ العنف على اختلاف اشكاله، ومتوقف على تراضي المتسامحين، ولكن هل هذه الشروط في صالح التسامح؟ الا يمكن اعتبارها عقبات في وجهه؟ أليس من الحكمة فك هذه الشروط واعتبارها شروطا باطلة؟
ما الحكمة من فك قيوده؟ (( نقد مذهب تقييد التسامح بشروط))
• ان تقييد التسامح في صلاحياته الشاسعة ومهامه الحرة والشاملة باسم النسبية، معناه خنقه وجعله تحت رحمة الاهواء الشخصية الضيقة والتقديرات الاجتماعية والعقائدية الواسعة ، الامر الذي يصبح معه استخدام التسامح ضربا من الاستحالة. فيسود منطق العنف والتنافر ويغيب منطق التسامح والتجاذب، وتنقلب الحياة بين الناس الى جحيم.
• الاشتراط في التسامح يقضي على التسامح نفسه فلا يشجعه ان يبقى مصدر رحمة وتعايش وقبول للغير بسلبياته وايجابياته.
• التسامح مطلب عالمي متسامي ولذلك خصص- وبمبادرة من منظمة اليونيسكوسنة 1995م -يوم 16نوفمبر من كل سنة للاحتفال باليوم العالمي للتسامح.
• والتسامح في الاسلام يتجلى بوضوح في دعوته للمسلمين استخدام العقل والمنطق ومحاولة اقناع المتحاور بالتي هي احسن والابتعاد عن العنف واشكاله في مجادلة طاغية عنيف او مجادلة اهل الكتاب وذلك من خلال قوله تعالى في سورة النحل من الآية 125(( ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن.)).
• كما جاء في القرآن الكريم آيات كثيرة تدعو الى التسامح والصفح الجميل مثل قوله تعالى: ((فاصفح الصفح الجميل)) سورة الحجر الآية 85. (( واصفح عنهم وقل سلام فسوف تعلمون)) سورة الزخرف الآية 89. ((وليعفوا وليصفحوا، الا تحبون ان يغفر الله لكم، والله غفور رحيم)) سورة النور الآية 22.
الخلاصة
ان الانسان رغم كونه كائن القيم الانسانية السامية، الا انه في غياب الحكمة وطغيان المصالح والحسابات الضيقة وخضوعه لغرائزه العمياء وميوله النفسية المعقدة والمتداخلة، يتحول الى بهيمة تنزل بالانسان الى مجتمع الغابة والاقتتال من اجل فرض السيطرة واثبات الذات والغاء الآخروقتله، لكن الحكمة التي اودعها الله في عباده هي اسلوب من التفكير السليم تجعل علاقة الانسان باخيه الانسان علاقة محبة وايخاء وتعاون من مظاهرها نبذ العنف وافشاء السلام وتغليب منطق الحوار والتسامح والصفح الجميل وعدم تهميش الآخر واقصائه بدعوى الاختلاف والمغايرة او التناقض، باعتبارها دعاوي تغذي العنف من جهة وتغيب التسامح ((اللاعنف)) من جهة اخرى، فتستحيل حياة البشر الى جحيم لايطاق.