أيها الإخوة والأخوات!
أقوام يأتون، وآخرون يرحلون، أرحام تدفع، وأرض تبلع، مثلهم كمثلِ أمواج بحر
متدفقة متلاحقة، إذا انكسرت على الشط موجة تبعتها موجة أخرى، أو كمثل نهر
متدفق تراه دائماً يجرى مع أن الماء الذي تراه اللحظة غير الماء الذي رأيته
قبل لحظة، وحتماً سيأتي اليوم الذي ينتهي فيه الوجود الإنساني كله، فتنطفئ
نجوم الليل، وتتوقف موجات البحر، بل وتجف مياه العيون والآبار، ويقوم
الجميع ليقفوا بين يدي العزيز الغفار؛ كما قال سبحانه: { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [إبراهيم:48].
أيها الأحبة الكرام! أستهل هذه السلسلة اليوم بالحديث عن الموت، فهذه هي المرحلة الأولى في هذه الرحلة الطويلة.
أيها الأخيار! لقد بين الله جل وعلا لنا الغاية التي من أجلها خلقنا فقال سبحانه: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات:56].
وبين لنا حقيقة هذه الدنيا التي جعلها محل اختبار لنا فقال سبحانه: {
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ
وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ
غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ
مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ
وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا
مَتَاعُ الْغُرُورِ } [الحديد:20].
وأكد الحبيب المصطفى صلى
الله عليه وسلم هذه الحقيقة في حديثه الصحيح الذي رواه الترمذي من حديث
سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال الحبيب: ( لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ).
فالدنيا حقيرة عند الله،
أعطاها للكافر والمؤمن على السواء، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح
بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء؛ لذا كان المصطفى يوصي أصحابه بعدم
الركون والطمأنينة إلى هذه الدار، كما أوصى بذلك عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما كما في صحيح البخاري أنه قال له: ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك.
ورحم الله من قال: إن
لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها
ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
الدنيا مزرعة الآخرة:
[size=25]
الفطناء العقلاء
الأذكياء هم الذين عرفوا حقيقة الدار فحرثوها وزرعوها، وهنالك في الآخرة
تجنى الثمار، فالذم الوارد في القرآن والسنة للدنيا لا يرجع إلى زمانها من
ليل أو نهار؛ فلقد جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد
شكوراً، والذم الوارد في الكتاب والسنة للدنيا لا يرجع إلى مكانها ألا وهو
الأرض، إذ إن الله قد جعل الأرض لبني آدم سكناً ومستقراً، والذم الوارد
للدنيا في القرآن والسنة لا يرجع إلى ما أودعها الله عز وجل من خيرات، فهذه
الخيرات نعم الله على عباده وعلى الناس، وإنما الذم الوارد في الكتاب
والسنة للدنيا يرجع إلى كل معصية تُرتكب على ظهرها في حق ربنا جل وعلا،
فلابد من تأصيل هذا الفهم، لاسيما لإخواننا الدعاة وطلاب العلم الذين ربما
يغيب عن أذهانهم حقيقة الزهد في هذه الحياة الدنيا، فنحن لا نريد أن نقنط
أحداً من هذه الحياة، ولا نريد أن نثبت لكل عامل في هذه الدنيا ولو كان في
الحلال أنه تجاوز طريق الأنبياء والصالحين والأولياء، كلا! كلا! بل الدنيا
مزرعة للآخرة.
أيها الأخيار! تدبروا معي قول علي بن أبى طالب رضي الله عنه: (الدنيا
دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن أخذ منها،
الدنيا مهبط وحي الله، ومصلى أنبياء الله، ومتجر أولياء الله).
فالدنيا مزرعة الآخرة، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري و مسلم من حديث أنس ، أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة ).
فلابد من هذا التأصيل،
ولابد من هذا الفهم الدقيق بهذا الوعي العميق لحقيقة الدنيا؛ لننطلق من هذه
الدار إلى دار تجمع سلامة الأبدان والأديان إلى دار القرار، فلابد قبل أن
تعبر إلى دار القرار من المرور بهذه الدار.
فالدنيا دار ممر والآخرة
هي دار المقر، الدنيا مركب عبور لا منزل حبور، الدنيا دار فناء وليست دار
بقاء، فلابد من وعي هذه الحقيقة لنستغل وجودنا في هذه الدار، ولنزرع هنا
ونجني هنالك عند ربنا عظيم الثمار، أسأل الله أن يجعلنا من الصادقين.
إذا علمت ذلك أيها
الحبيب الكريم! فاعلم هذه الحقائق، وكن على يقين جازم بأن الحياة في هذه
الدنيا موقوتة محدودة بأجل، ثم تأتي نهايتها حتماً، فيموت الصالحون ويموت
الطالحون، يموت المجاهدون ويموت القاعدون، يموت المستعلون بالعقيدة ويموت
المستذلون للعبيد، يموت الشرفاء الذين يأبون الضيم ويكرهون الذل، ويموت
الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن، فالكل يموت، كما قال تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } [الرحمن:26-27].
فلابد من أن تستقر هذه
الحقيقة في القلب والعقل معاً، إنها الحقيقة التي تعلن على مدى الزمان
والمكان في أذن كل سامع وعقل كل مفكر أنه لا بقاء إلا للملك الحي الذي لا
يموت، إنها الحقيقة التي تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة الذل والعبودية
لقهار السماوات والأرض، إنها الحقيقة التي شرب كأسها الأنبياء والمرسلون،
والعصاة والطائعون، إنها الحقيقة الكبيرة التي تؤكد لنا كل لحظة من لحظات
الزمن قول الله جل وعلا: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [القصص:88].
سكرات الموت:
[size=25]
أيها الحبيب الكريم!
تذكر هذه الحقيقة ولا تتغافل عنها؛ إذ إن النبي قد أمرنا أن نكثر من ذكرها،
كما في الحديث الذي رواه الترمذي و النسائي و البيهقي و الحاكم وغيرهم من
حديث ابن عمر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أكثروا ذكر هادم اللذات الموت ).
إنها الحقيقة التي سماها الله في قرآنه بالحق فقال جل وعلا: {
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ
تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ
كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق:19-21].
لا إله إلا الله! إن
للموت سكرات، هل علمت أن هذه الكلمات قالها حبيب رب الأرض والسموات وهو
يحتضر على فراش الموت، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي وذاقتني، وكان بين يديه ركوة
بها ماء، فكان يمد يده في داخل الماء ويمسح وجهه ويقول: لا إله إلا الله،
إن للموت سكرات ).
هكذا يقول حبيب رب الأرض والسماوات، قال عز وجل: { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } [ق:19]، فالمصطفى يذوق سكرة الموت ويقول: ( لا إله إلا الله، إن للموت سكرات ).
وفي رواية الترمذي كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن للموت غمرات، وإن للموت سكرات! ) وفي رواية: ( كان صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويقول: اللهم أعني على سكرات الموت ) .
عرض الأديان على الإنسان عند السكرات:
[size=25]
قال عز وجل: { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } [ق:19]، وما أدراك ما السكرات؟ وما أدراك ما الكربات؟ والله! إن الكرب والهم يزداد في لحظات السكرات.
إذا نمت على فراش الموت
يا ابن آدم! ورأيت في غرفتك التي أنت فيها دون أن يرى أحد غيرك، رأيت
شيطاناً قد جلس عند رأسك يريد أن يضلك عن كلمة (لا إله إلا الله)
ويقول لك: مت يهودياً؛ فإنه خير الأديان! أو يقول لك: مت نصرانياً؛ فإنه
خير الأديان! واستدل بعضُ أهلِ العلم على ذلك بشطر حديث صحيح رواه الإمام
مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الشيطان يحضر كل شيء لابن آدم ).
وسئل شيخ الإسلام ابن
تيمية في مجموع الفتاوى (4/255) عن مسألة عرض الأديان قبل الموت على العبد
في فراش الموت، فقال شيخ الإسلام : من الناس من تعرض عليه الأديان، ومنهم
من لا يعرض عليه شيء قبل موته، ثم قال: ولكنها من الفتن التي أمرنا النبي
أن نستعيذ منها، كما في قوله: ( اللهم أنى أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ).
فمن فتن الموت أن تأتي الشياطينُ لتصدك عن (لا إله إلا الله)
ولتصدك عن كلمة التوحيد؛ فهذه من الكربات، وهذه من أشد السكرات على ابن
آدم، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فهل علمت أخي في الله! أن إمام أهل السنة
أحمد بن حنبل ، حينما نام على فراش الموت ذهبت إليه الشياطين لتنادي عليه
بهذه الكلمات؟ قال ولده: عبد الله : حضرت الوفاة أبي فنظرت إليه، فإذا هو
يغمى عليه ثم يفيق، ثم يشير بيده ويقول: لا بعد، لا بعد، فلما أفاق الإمام
في لحظة بين سكرات الموت وكرباته قال له ولده عبد الله : يا أبت! تقول: لا
بعد، لا بعد! فما هذا؟ فقال لولده: يا بني! هناك شيطان جالس عند رأسي عاض
على أنامله يقول لي: يا أحمد ! لو فتني اليوم ما أدركتك بعد اليوم، وأنا
أقول له: لا بعد، لا بعد! حتى أموت على (لا إله إلا الله).
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت:
[size=25]
إن كنت من المؤمنين
الصادقين الموحدين المخلصين واجتالتك الشياطين ثبتك رب العالمين، وأنزل
إليك ملائكة التثبيت، كما في حديث البراء بن عازب الصحيح، ومحل الشاهد فيه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: ( أن المؤمن إذا
نام على فراش الموت جاءته ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن
من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون من المؤمن مد البصر، حتى
يأتي ملك الموت، ثم يجلس ملك الموت عند رأسه، وينادي على روحه الطيبة وهو
يقول: يا أيتها الروح الطيبة! اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب راضٍ
عنك غير غضبان، فتخرج روح المؤمن سهلة، تسيل كما يسيل الماء من في السقاء،
فلا تدعها الملائكة في يد ملك الموت طرفة عين، ثم ترقى بها إلى الله جل
وعلا ).
هكذا أيها الأحبة! {
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ
وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [إبراهيم:27]، فتنزل ملائكة
التثبيت على الموحدين لرب الأرض والسماء جل وعلا بهذه البشارة التي سجلها
ربُنا في قرآنه في قوله جل وعلا: { إِنَّ الَّذِينَ
قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ
الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ
الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ
وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [فصلت:30-32].
قال ابن عباس : (القول الثابت هو لا إله إلا الله).
سكرة الموت حق:
[size=25]
قال عز وجل: { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ }
[ق:19]، والحق: أنك تموت، والله حي لا يموت، والحق: أن ترى عند موتك
ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، والحق: أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة
أو حفرة من حفر النيران.
وقوله عز وجل: { ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ }
[ق:19] أي: ذلك ما كنت منه تخاف، ذلك ما كنت منه تهرب، فكيف تحيد إلى
الطبيب إذا جاءك المرض، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى
الشراب إذا أحسست بالظمأ، ثم ماذا أيها القوي الفتي؟! أيها الذكي العبقري!
يا أيها الوزير والأمير والكبير! ويا أيها الصغير والفقير والحقير! كلكم
كما قال الشاعر: كل باكٍ فسيُبَكى كل ناعٍ فسيُنعى كل مدخور سيفنى كل مذكور
سيُنسى ليس غير الله يبقى من علا فالله أعلى وقال الشاعر الآخر: أيا من
يدعي الفهم إلى كم يا أخا الوهم! تعب الذنب والذم وتخطي الخطأ الجم أما بان
لك العيب؟! أما أنذرك الشيب؟! وما في نصحه ريب ولا سمعك قد صم أما نادى بك
الموت؟! أما أسمعك الصوت؟! أما تخشى من الفوت؟! فتحتاط وتهتم فكم تسدر فى
السهو وتختال من الزهو وتنفض إلى اللهو كأن الموت ما عم! كأني بك تنحط إلى
اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله
الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم فزود نفسك الخير ودع ما يعقب
الضير وهيئ مركب السير وخف من لجة اليم بذا أوصيك يا صاح! وقد بحت كمن باح
فطوبى لفتى راح بآداب محمد يأتم
حال الإنسان عند النزع:
[size=25]
وصدق الله جلا وعلا إذ يقول: {
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ
أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } [القيامة:26-30].
(كلا إذا بلغت التراقي)، أي: إذا بلغت الروح الترقوة، (وقيل من راقٍ)،
أي: من يرقى بروحه: ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وقيل: أي: من يبذل له
الرقية؟ ومن يبذل له الطب والعلاج؟ فهو صاحبُ الجاه صاحبُ الأموال صاحب
السلطان صاحب الوزارة، وقد التف الأطباء حوله، بل نقل في سيارة خاصة إلى
مستشفىً كبير، فالتف الأطباء من حوله: هذا متخصص في جراحة القلب، وهذا
متخصص في جراحة المخ والأعصاب، وذاك في تخصص كذا، وذاك في تخصص كذا، وكلهم
يريدون شيئاً، وملك الملوك قد أراد شيئاً آخر، قال عز وجل: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف:34].
وقال سبحانه: { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [النساء:78].
وقال جل وعلا: {
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ
ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ
بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجمعة:8].
وقال تعالى: { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ } [الأعراف:34].
التف الأطباء من حوله كل
يبذل له الرقية ويقدم له العلاج، ولكن حار الأطباء حوله وداروا؛ فما الذي
جرى؟ وما الذي حدث؟ اصفر وجهه، وشحب لونه، وبردت أطرافه، وتجعد جلده، وبدأ
يشعر بزمهرير قارس، فينظر مرة في لحظة السكرة والكربة فيرى الغرفة التي هو
فيها قد صارت فضاءً موحشاً، أو تضيق عليه فتصير كخرم إبرة، أو ينظر مرة
فيرى أهله يبتعدون عنه ومرة يقتربون، لقد اختلطت عليه الأمور والأوراق،
فتراه يسأل: من هذا الذي عند رأسي؟! إنه يعاينه ويراه، إنه ملك الموت!
ومَنْ هؤلاء الذين يتنزلون من السماء؟ إنه يراهم بعينيه! إنهم الملائكة!
فيا ترى أهي ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟! ويا ترى! ماذا سيقول لي ملك
الموت؟ وهل سيقول لي: يا أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله
ورضوان، ورب راضٍ غير غضبان، أم سيقول: يا أيتها الروح الخبيثة! اخرجي إلى
سخط الله وعذابه؟! فينظر في لحظة صحوة بين السكرات والكربات فإذا وعى من
حوله من أهله وأحبابه، نظر إليهم نظرة استعطاف ونظرة رجاء وأمل، وقال بلسان
الحال، بل وربما بلسان المقال: يا أولادي! يا أحبابي! يا إخواني! لا
تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي؛ فأنا أبوكم، وأنا الذي بنيت لكم
القصور، وأنا الذي عمرت لكم الدور، وأنا الذي نميت لكم التجارة، فمن منكم
يزيد في عمري ساعة أو ساعتين؟! افدوني بأموالي، افدوني بأعمالكم: { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } [الحاقة:28-29].
لا يرد الموت شيء:
[size=25]
نام هارون الرشيد على فراش الموت، فنظر إلى جاهه وماله ثم قال: { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ }
[الحاقة:28-29]، وقال: أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه، فحملوا هارون إلى
قبره، فنظر هارون إلى القبر وبكى، ونظر إلى السماء وقال: يا من لا يزول
ملكه! ارحم من قد زال ملكه.
قال عز وجل: { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } [الحاقة:28-29].
أين الجاه؟! وأين السلطان؟! وأين المال؟! وأين الأراضي؟ لقد ذهب كل شيء! وهنا يعلو صوت الحق: {
فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ *
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا
إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ *
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ
وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ *
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ
الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ
جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة:83-96].
سبحان ذي العزة
والجبروت! سبحان ذي الملك والملكوت! سبحان من كتب الفناء على جميع خلقه وهو
الحي الذي لا يموت! سبحانك يا من أذللت بالموت رقاب الجبابرة! سبحانك يا
من أنهيت بالموت آمال القياصرة! ونقلتهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن
ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والنساء والغلمان إلى
مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في ألوان الطعام والشراب إلى التمرغ في
ألوان الوحل والتراب! قال عز وجل: { كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } [القيامة:26-27] أي: من يرقى بروحه، أو من يبذل له الرقية والطب والعلاج.
{ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } [القيامة:28-30].
إنه يومُ المرجع، إنه يوم العودة، انتهى أجلك وانتهت دنياك، وحتماً ستُعرض على مولاك.
موعظة أبي حازم لسليمان بن عبد الملك:
[size=25]
سأل سليمان بن عبد الملك
عالماً من علماء السلف يقال له: أبو حازم ، قال سليمان : يا أبا حازم ما
لنا نكره الموت؟! وبعض الناس الآن ربما يتضجر إن ذُكِّر بالموت، وربما يقول
لمذكره: ذكرنا بموضوع آخر، وهل ما وجدت إلا الموت لتذكرنا به؟! فقال
سليمان بن عبد الملك لـ أبى حازم : يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال
أبو حازم : لأنكم عمرتم دنياكم، وخربتم أخراكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من
العمران إلى الخراب! في زيارة لي إلى أمريكا نبهني أحد الإخوة إلى رجل
منَّ الله عليه بالأموال، ومع ذلك لا يصلي ولا يعرف حقاً للكبير المتعال،
فذهبت إليه لأذكره بالله جل وعلا، وهو مسلم عربي وليس أمريكياً، فقال لي:
يا أخي! أنا ما أتيت إلى هذه البلاد إلا من أجل الدولار، وأعدك إن عدتُ إلى
بلدي ألا أفارق المسجد أبداً! قلت: سبحان الله! ومن يضمن لك يا مسكين أن
ترجع إلى بلدك، ومن يضمن لك أن يمر عليك يومُ بكامله، والله! لا تضمن أن
تتنفس بعد هذه اللحظات.
فدع عنك ما قد فات من
زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب! لم ينسه الملكان حين نسيته بل
أثبتاه وأنت لاهٍ تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسلب
وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار
كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب دنياك مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي
حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد
من دخول القبر.
يا أبا حازم ! ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.
فقال سليمان بن عبد الملك : يا أبا حازم ! كيف حالنا عند الله تعالى؟! قال: اعرض نفسك على كتاب الله.
قال سليمان : أين أجده؟ قال: في قوله تعالى: { إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار:13-14].
قال سليمان بن عبد الملك : فأين رحمة الله يا أبا حازم ؟! قال أبو حازم : إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين.
فقال سليمان بن عبد
الملك : فكيف عرضنا على الله غداً؟ فقال أبو حازم : أما المحسن فكالغائب في
سفر يقدم على أهله، فيستقبله الأهل بفرح، والمسيء كالعبد الآبق يقدم على
مولاه.
وفي الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت
عائشة : يا رسول الله! أكراهية الموت، فكلنا نكره الموت، قال: لا يا عائشة
! ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته، أحب لقاء الله وأحب الله
لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بسخط الله وعذابه، كره لقاء الله وكره الله
لقاءه ).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
إذا وضعت الجنازة وحملها الرجال على الأعناق تكلمت، وسمعها كل شيء إلا
الإنسان، إن كانت صالحة: قدموني قدموني! وإذا كانت غير صالحة تقول: يا
ويلها! إلى أين يذهبون بها؟ ولو سمعها الإنسان لصعق )، إي والله! لو سمعت جنازة تقول: قدموني قدموني، وسمعت جنازة أخرى لحبيب لك تقول: يا ويلها! إلى أين تذهبون بها؟ لصعقت.
والحديث عن النفس حديث
طويل ومكروه، فإنما هي آية ثابتة، وإنما هي أحاديث ثابتة نذكر بها كلما
أردنا أن نذكر الآخرين -وأنفسنا قبل الآخرين- بالموت، وقد أمرنا النبي صلى
الله عليه وسلم أن نكثر من ذكر الموت لنستعد للقاء الله جل وعلا.
أيها اللاهي! أيها
الشاب! أيها الكبير! أيها الصغير! أيها الوزير! أيها الأمير! أيها الصغير!
أيها الحقير، ذكر نفسك وقل لها: يا نفس قد أزف الرحيلُ وأظلك الخطب الجليل
فتأهبي يا نفس! لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به
الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى حمل ثقيل قرن الفناء بنا فما يبقى العزيز
ولا الذليل وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم .
وجوب التوبة إلى الله:
[size=25]
الحمد لله رب العالمين،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمداً
عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه
وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها
الأحبة الكرام! هكذا تبدأ رحلتنا في رحاب الدار الآخرة بالموت بعدما بينا
بإيجار حقيقة الدنيا، وتنتهي هذه المرحلة الأولى بالوصول إلى القبر، وهأنذا
أقف بكم أمام القبر وعند القبر؛ لنرى في لقائنا المقبل إن شاء الله جل
وعلا حقيقة القبر، وما معنى البرزخ؟ وما معنى النعيم؟ وما معنى الجحيم؟
ولماذا لم يذكر الله عذاب القبر صراحة في القرآن؟ وهل ثبتت فيه أحاديث
صحيحة عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ وما هي حقيقة القبر؟ وما هي حقيقة
البعث بعد ذلك؟ لنواصل الرحلة، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بها.
وهأنذا أذكر نفسي وأحبابي وأخواتي في هذه اللحظات بالتوبة إلى رب الأرض والسموات.
يا من أسرفت على نفسك
بالمعاصي! يا من ضيعت الصلاة في بيوت الله! يا من تركتِ الحجاب الشرعي! يا
من شغلك التلفاز أو الشيطان عن الله عز وجل! يا من أعرضت عن مجلس العلم
وأماكن الخير والطاعة والعبادة! يا من قضيت عمرك على المقاهي وتركت فرض
الله عز وجل! تب إلى الله، والله! إنك ستموت والله! إنك ستموت، وغداً يا
مسكين! ستتمنى الرجعة، كما قال عز وجل: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ } [المؤمنون:99].
فإن كان كافراً سيتمنى الرجعة، وإن كان مسلماً عاصياً سيتمنى الرجعة: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي } [المؤمنون:99-100] سبحان ربي! هو غير متأكد إن كان سيعمل صالحاً أو لن يعمل صالحاً، مع أنه يتمنى على الله أن يعود! { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } [المؤمنون:99-100] فيأتيه الجواب كالصفعة على خديه: { كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ } [المؤمنون:100] أي: كلمة حقيرة، كلمة تافهة لا وزن لها عند الله: { هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [المؤمنون:100].
فتب إلى الله، وأذكر
نفسي وإياك ألا تيأس ولا تقنط مهما بلغت ذنوبك، فعد إلى الملك مهما كثرت
معاصيك، واطرق باب الرحمن جل وعلا، والله! لن يغلق الرحمن الباب في وجهك،
وإن ارتكبت الزنا، وإن شربت الخمر، وإن قتلت، فعد إلى الله، فإن الله يقبل
توبة المشرك إن خلع رداء الكفر على عتبة الإسلام، كما قال عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء:48].
وقال سبحانه: {
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر:53].
فعاهد ربك الآن على التوبة، وعاهدي ربك على التوبة.
قال عز وجل: {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ
النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا
نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [التحريم:8].
وأذكرك بهذا الحديث الذي رواه مسلم و الترمذي واللفظ للترمذي من حديث أنس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
قال الله تعالى في الحديث القدسي: يا ابن آدم ! إنك ما دعوتني ورجوتني
غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء
ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني
بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة )، فاسجد لربك شكراً يا من خلقت موحداً! وبعث الله إليك محمداً، فإن هذا من فضل الله علينا.
أيها الحبيب! اجتهد في
الدنيا، وعمر الكون، وإن استطعت أن تربح مليوناً فافعل، بشرطين: أن تربح من
الحلال، وأن تؤدي حق الكبير المتعال، فاجتهد في الدنيا، وازرع للآخرة؛
فأنا لا أريد أن أقنطك من هذه الحياة أبداً، وإنما أريد أن أذكر نفسي وإياك
بأن الدنيا مزرعة للآخرة، فلا ينبغي أن تنشغل بالدار الفانية عن الدار
الباقية، فغداً سترحل عن هذه الحياة، ولن ينفعك إلا ما قدمت، كما قال صلى
الله عليه وسلم: ( يتبع الميت ثلاثة: ماله وأهله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع الأهل والمال، ويبقى العمل )
وينادى عليك هنالك في القبر بلسان الحال: رجعوا وتركوك، وفى التراب وضعوك،
وللحساب عرضوك، ولو ظلوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا عملك مع رحمة الحي
الذي لا يموت.
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فأنت علينا قادر.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم أصلح لنا ديننا
الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا
التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة
لنا من كل شر، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا
مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين.
اللهم ارزقنا حسن
الخاتمة يا أرحم الراحمين! اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، اللهم لا تحرمنا
الزيادة، اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، اللهم لا تحرمنا الزيادة.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا ألا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته.
اللهم اغفر ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم لا تدع لأحد منا
ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا هماً إلا
فرجته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا عاصياً بيننا إلا هديته، ولا طائعاً
معنا إلا زدته وسددته يا رب العالمين! ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح
إلا قضيتها ويسرتها يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً،
وتفرقنا من بعده دوماً تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا،
واجعلنا سبباً لمن اهتدى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى،
اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
أيها الأحبة! هذا وما
كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني
ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون
عليه إلى الجنة ويلقى في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين .
من دروس فضيلة الشيخ محمد حسان خفظه الله