السؤال:
لي صديقة سحاقية منذ أن عرفت نفسها ، وقد حاولت أن تتغير ولكنها لم تستطع ، حتى إنها حاولت أن ترتبط برجل ففشلت تلك العلاقة ، وانتهت بفسخ الخطوبة ، وبديهي أنها لا تستطيع أن تعيش بمفردها في هذه الحياة ، كما أنها لا تريد أن تقع في الإثم ، فماذا تفعل ؟
هل يجوز لها أن تتزوج برجل شاذ لا حاجة له في النساء ، بحيث يشكّل كل منهما غطاء للآخر ؟
الجواب :
الحمد لله
ما نستطيع أن نوجه هذه الفتاة إليه هو أن الرغبة المحرمة والإدمان على الفاحشة لا بد أن تواجه بكل الحلول الحاسمة ، التي قد تكون مُرة وصعبة ، ولكنها تقي مما هو أسوأ وأقبح ، وتحفظ من الهلكة في الدنيا قبل الآخرة . ولا يكفي لتحقيق ذلك أن تقوم ببعض الأسباب المحكوم عليها بالفشل المتحتم نتيجة خطئها وعدم نجاعتها ، إذ كل محاولة لا تبدأ بقطع أسباب الفتنة من أساسها : لا تستحق أن تسمى محاولة ، ولا يُعذر المرء معها أن يستمر على حاله السيء .
ولهذا فإننا نقرر هنا – إذا صدقت تلك الفتاة في رغبتها في العلاج – أن أول علاجها يبدأ من هجر الفتيات الأخريات التي تتعاطى معهن فاحشة السحاق ، والابتعاد عن مكان إقامتهن ، وحذف جميع وسائل التواصل معهن من الهاتف والإيميل ونحوها ، بحيث لا يمكن استرجاعها بعد ذلك ، وحينئذ ستجد ألما وضيقا نفسيا لما ستتركه من إلف عادتها السيئة الماضية ، فتبدأ بالصبر والتحمل والإصرار على التقدم في مسيرة العلاج ، ولتحاول أن تشتغل بالعمل النافع المباح الذي يستغرق وقتها ، أو الدراسة وطلب العلم ، أو التدرب على الأعمال المهنية المناسبة لسنها وجنسها ، والخبراء النفسيون يقررون أن ستة أشهر بعد قطيعة المعصية كفيلة بنسيانها والقدرة على تجاوزها ، والتحصن من عدم العودة إليها بسهولة .
وعلماء الشريعة يستأنسون إلى مبدأ هذا النوع من العلاج " علاج القطيعة " بحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا ، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ ، فَأَتَاهُ فَقَالَ : إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَقَالَ : لَا ، فَقَتَلَهُ ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ ، فَقَالَ : إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا ، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ : جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ : إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ ، فَقَالَ : قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ ، فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ ) رواه البخاري (3470) ، ومسلم (2766) .
يقول الإمام النووي رحمه الله :
" قال العلماء : في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب والأخدان المساعدين له على ذلك ، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم ، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين الورعين ، ومن يقتدي بهم ، وينتفع بصحبتهم ، وتتأكد بذلك توبته " انتهى من " شرح صحيح مسلم " (17/83) .
ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" فيه فضل التحول من الأرض التي يصيب الإنسان فيها المعصية ؛ لما يغلب بحكم العادة على مثل ذلك ، إما لتذكره لأفعاله الصادرة قبل ذلك ، والفتنة بها ، وإما لوجود من كان يعينه على ذلك ويحضه عليه ، ولهذا قال له الأخير ( ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ) ففيه إشارة إلى أن التائب ينبغي له مفارقة الأحوال التي اعتادها في زمن المعصية ، والتحول منها كلها ، والاشتغال بغيرها " انتهى من " فتح الباري " (6/517) .
وهذا هو العلاج الذي أرشد إليه القرآن الكريم قبل أن يفرض الحد الشرعي ، لعلاج المجتمع من آفات الفواحش الجنسية ، كما في قوله تعالى : ( وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ) النساء/15.
وقد سبق في موقعنا ذكر بعض الأسباب المعينة على ترك هذه المعصية ، يمكن مراجعتها في الفتوى رقم : (101169) ، (104078) .
يقول ابن القيم رحمه الله :
" الكلام في دواء داء تعلق القلب بالمحبة الهوائية من طريقين :
أحدهما : حسم مادته قبل حصولها .
والثاني : قلعها بعد نزوله .
وكلاهما يسير على من يسره الله عليه ، ومتعذر على من لم يعنه الله ، فإن أزمَّة الأمور بيديه .
فأما الطريق المانع من حصول هذا الداء ، فأمران : غض البصر ، واشتغال القلب بما يصده عن ذلك ، ويحول بينه وبين الوقوع فيه " انتهى باختصار من " الجواب الكافي " (178-181) . أما أن تسأل هذه الفتاة عن حكم زواجها من الرجل الشاذ ، لتتمكن ـ بعد ذلك ـ من ممارسة فاحشتها من غير رقيب ولا نكير ، فسوف يكون ذلك من أسباب خذلانها وحرمانها من أسباب التوبة ؛ لأنها تخطط بذلك لتثبيت معصيتها وتسهيلها ، بل والبحث عن شركاء جدد فيها ، وذلك يعني أنها يمكن أن تتعرف إلى الرجال الشواذ ، وتتزوج بأحدهم بعد الاتفاق على حرية كلا الزوجين بالولوغ في الشذوذ ، والله عز وجل مطلع عليهم ، يمهلهم للتوبة وهم يستغرقون في المعصية ، وكأنهم لم يقرؤوا قول الله عز وجل : ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) الأنفال/13، وقوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا . يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا . إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا . وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ) الفرقان/68-71.
دعوتنا لهذه الفتاة أن تتقي الله تعالى في نفسها ودينها ومجتمعها ، بل وفي الإنسانية جمعاء ، أن تكون سببا في انتكاسة الخلق وانحراف الفطرة العامة ، وأن تجعل الموت والقبر نصب أعينها ، حين تطوى وحيدة تحت التراب إلى الأبد ، وهناك لن يؤنسها سوى عملها الصالح ، وأما سعار الشهوة الشاذة فستكون سبب الوحشة والظلمة والعذاب .
فعن أبي حمزة , قال : " قلت لمحمد بن علي بن الحنفية : " عذب الله نساء قوم لوط بعمل رجالهم؟
قال : الله أعدل من ذلك , استغنى الرجال بالرجال , والنساء بالنساء ".
وقال حذيفة رضي الله عنه : " إنما حق القول على قوم لوط حين استغنى النساء بالنساء , والرجال بالرجال " رواهما ابن أبي الدنيا في " ذم الملاهي " (رقم/145، 149) . إن هذه المرأة ـ حقا ـ ضعيفة مسكينة ، فقيرة إلى الله عز وجل ، فانصحيها : ألا تتردد في رفع يديها لتسأله سبحانه أن يعينها على الطاعة وترك المعصية ، وأن يغفر لها ما مضى ويعصمها فيما بقي . قال تعالى : ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) آل عمران/135-136. ولتحاول مرة أخرى ، متى تابت توبة نصوحا ، وشرعت في العلاج السليم : أن تخوض تجربة من النكاح الحلال ، ولتسأل ربها أن يرزقها الهدى والتقى ، والعفاف والغنى ، وأن يغنيها بحلاله عن حرامه . والله أعلم .