السؤال:
أشكلت علي مسألة في الفقه ، وهي رأي الحنابلة فيمن أخذ من شجر حرم المدينة ما تدعو إليه الحاجة ؛ حيث نص الحنابلة على أنه لا يجوز قطع السواك ولا ورق الأشجار ولا ورق السنى للعلاج في حرم مكة ، وأجازوا أن يؤخذ من شجر حرم المدينة ما تدعو الحاجة إليه للمساند والوسائد والرحل ، والدليل حديث جابر " لما حرم المدينة قالوا : يا رسول الله إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح ، وإنا لا نستطيع أرضًا غير أرضنا، فرخص لنا، فقال: القائمتان والوسادة والعارضة والمسد) . والحديث ضعيف .
السؤال :
هل يفهم من (الحنابلة) أنهم يجيزون قطع كل ما قطع لحاجة في المدينة ، كالقطع للبناء أو لإصلاح الحوائط وغير ذلك ، أو هو مخصوص بهذه الأشياء فقط ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ حَرَمٌ مِثْل مَكَّةَ ، فَيَحْرُمُ صَيْدُهَا ، وَلاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا ؛ إِلاَّ مَا اسْتُنْبِتَ لِلْقَطْعِ .
انظر : "الموسوعة الفقهية" (36/ 310) .واستثنى الحنابلة ما تدعو الحاجة إليه : للمساند ، والوسائد ، والعوارض ؛ ونحو ذلك مما يحتاجه أهل الحرث .
قال الحجاوي رحمه الله في "زاد المستقنع" (ص90) :
" ويحرم صيد المدينة ولا جزاء فيه ، ويباح الحشيش للعلف ، واتخاذ آلة الحرث ونحوه " انتهى .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" قوله: " ويباح الحشيش للعلف ، وآلة الحرث ونحوه " ، لأن أهل المدينة أهل زروع فرخص لهم في ذلك ، كما رخص لأهل مكة في الإذخر.
والدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رخص في ذلك ، فيباح أن تحش الحشيش لتعلف بهائمك .
وكذلك قطع الأغصان لآلة الحرث ، أي السواني، بأن يقطع الإنسان شجرة ، لينتفع بخشبها في المساند والعوارض، وما أشبه ذلك مما يحتاجه أهل الحرث ، وبهذا نعلم أن تحريم حرم المدينة أخف من تحريم حرم مكة ".
انتهى من "الشرح الممتع" (7/ 223) .
وقال الشيخ أيضا :
" الفروق بين حرم مكة وحرم المدينة:
- أن حرم مكة ثابت بالنص والإجماع ، وحرم المدينة مختلف فيه.
- أن صيد حرم مكة فيه الإثم والجزاء ، وصيد حرم المدينة فيه الإثم ، ولا جزاء فيه.
- أن الإثم المترتب على صيد حرم مكة ، أعظم من الإثم المترتب على صيد المدينة.
- أن حرم مكة أفضل من حرم المدينة ؛ لأن مضاعفة الحسنات في مكة أكثر من المدينة ، وعظم السيئات في مكة أعظم من المدينة .
- أن حرم مكة يحرم فيه قطع الأشجار بأي حال من الأحوال ، إلا عند الضرورة، وأما حرم المدينة فيجوز ما دعت الحاجة إليه ، كالعلف، وآلة الحرث ، وما أشبه ذلك ... " انتهى ملخصا من "الشرح الممتع" (7/ 224-225) .
وانظر إجابة السؤال رقم : (109171) ، والسؤال رقم : (191459) . وإنما رخص في نحو ذلك ، لأن الحاجة تدعو إليه ؛ كما رُخص لأهل مكة في الإذخر ، لأن حاجتهم تدعو إليه .
روى أبو داود (2035) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ في المدينة : ( لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمَنْ أَشَادَ بِهَا، وَلَا يَصْلُحُ لِرَجُلٍ أَنْ يَحْمِلَ فِيهَا السِّلَاحَ لِقِتَالٍ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُقْطَعَ مِنْهَا شَجَرَةٌ ، إِلَّا أَنْ يَعْلِفَ رَجُلٌ بَعِيرَهُ ) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" .
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (3/ 325-326):
"وَيُفَارِقُ حَرَمُ الْمَدِينَةِ حَرَمَ مَكَّةَ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ شَجَرِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ، لِلْمَسَانِدِ وَالْوَسَائِدِ وَالرَّحْلِ، وَمِنْ حَشِيشِهَا مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ لِلْعَلْفِ ؛ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَرَّمَ الْمَدِينَة َ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا أَصْحَابُ عَمَلٍ، وَأَصْحَابُ نَضْح ، وَإِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَرْضًا غَيْرَ أَرْضِنَا، فَرَخِّصْ لَنَا، فَقَالَ: ( الْقَائِمَتَانِ، وَالْوِسَادَةُ، وَالْعَارِضَةُ، وَالْمِسْنَدُ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يُعْضَدُ، وَلَا يُخْبَطُ مِنْهَا شَيْءٌ ) ".
فَاسْتَثْنَى ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ مُبَاحًا، كَاسْتِثْنَاءِ الْإِذْخِرَ بِمَكَّةَ ... وَلِأَنَّ الْمَدِينَةَ يَقْرُبُ مِنْهَا شَجَرٌ وَزَرْعٌ، فَلَوْ مَنَعْنَا مِنْ احْتِشَاشِهَا، مَعَ الْحَاجَةِ، أَفْضَى إلَى الضَّرَرِ، بِخِلَافِ مَكَّةَ ... " انتهى .
والحديث الذي ذكره لم نجده في مسند الإمام أحمد ولا غيره من كتب الحديث ، فلعل الإمام أحمد رحمه الله رواه في بعض مصنفاته التي لم تصل إلينا . أما ما لا حاجة إليه في العادة ، وإنما تكون الحاجة إليه نادرة ، فلا يرخص فيه ، كخشب السقف والعوارض في البناء والخشب المطلوب لصناعة الأسرة والخزانات الخشبية ونحو ذلك ، فمثل هذا لا يرخص فيه ، والواجب جلبه من خارج الحرم ، وهذا هو تحرير مذهب الحنابلة في هذه المسألة .
والله أعلم .