الحمد لله نشكر لك أختنا الفاضلة حرصك على التزام أوامر الله ، والارتقاء في منازل العبودية لرب العالمين ، وسلوك الصراط المستقيم الذي أراد الله عز وجل من كل عبد أن يسلكه ، وأمرهم بطلب الهداية إليه في كل وقت وحين : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) الفاتحة/6 ونوصيك بالمبادرة إلى الخيرات ، والمنافسة في عمل الصالحات ، فقد حثنا عز وجل على ذلك بقوله : ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) آل عمران/133 وقال سبحانه : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) البقرة/148 والعبد لله – حقاً – الذي رضي بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، لا يتردد ، ولا يستخير ، ولا يستشير في أمر قد أمره الله به : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) الأحزاب/36 قال أبو الزناد رحمه الله في "الفقيه والمتفقه" (1/222) : إن السنن لا تخاصم ، ولا ينبغي لها أن تتبع بالرأي والتفكير ، ولو فعل الناس ذلك لم يمض يوم إلا انتقلوا من دين إلى دين ، ولكنه ينبغي للسنن أن تلزم ويتمسك بها على ما وافق الرأي أو خالفه ، ولعمري إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرا على خلاف الرأي ، ومجانبته خلافا بعيدا ، فما يجد المسلمون بدا من اتباعها والانقياد لها " انتهى . قال محمد بن نصر المروزي رحمه الله : " فمن دان بدين محمد صلى الله عليه وسلم فليقبل ما أتاه على ما وافق رأيه أو خالفه ، ولا يشكن في شيء من قوله ، فإن الشك في قول النبي صلى الله عليه وسلم كفر " انتهى من كتاب تعظيم قدر الصلاة . وهذا من عظيم أدب الله للمؤمنين به ، وتحذيره لهم أن يكون اتباعهم لدينه حسب الهوى والمصلحة الشخصية ، قال الله تعالى : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) النور/47-52
قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره للآيات السابقة : ( يخبر تعالى عن حالة الظالمين ، ممن في قلبه مرض وضعف إيمان ، أو نفاق وريب وضعف علم ، أنهم يقولون بألسنتهم ، ويلتزمون الإيمان بالله والطاعة ، ثم لا يقومون بما قالوا ، ويتولى فريق منهم عن الطاعة توليا عظيما ، بدليل قوله : ( وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) فإن المتولي قد يكون له نية عود ورجوع إلى ما تولى عنه ، وهذا المتولي معرض ، لا التفات له ، ولا نظر لما تولى عنه ، وتجد هذه الحالة مطابقة لحال كثير ممن يدعي الإيمان والطاعة لله وهو ضعيف الإيمان ، وتجده لا يقوم بكثير من العبادات ، خصوصا : العبادات التي تشق على كثير من النفوس ، كالزكوات ، والنفقات الواجبة والمستحبة ، والجهاد في سبيل الله ، ونحو ذلك . (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي : إذا صار بينهم وبين أحد حكومة ، ودعوا إلى حكم الله ورسوله ( إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ) يريدون أحكام الجاهلية ، ويفضلون أحكام القوانين غير الشرعية على الأحكام الشرعية ، لعلمهم أن الحق عليهم ، وأن الشرع لا يحكم إلا بما يطابق الواقع . (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ) أي : إلى حكم الشرع (مُذْعِنِينَ) وليس ذلك لأجل أنه حكم شرعي ، وإنما ذلك لأجل موافقة أهوائهم ، فليسوا ممدوحين في هذه الحال ، ولو أتوا إليه مذعنين ، لأن العبد حقيقة ، من يتبع الحق فيما يحب ويكره ، وفيما يسره ويحزنه ، وأما الذي يتبع الشرع عند موافقة هواه ، وينبذه عند مخالفته ، ويقدم الهوى على الشرع ، فليس بعبد على الحقيقة ، قال الله في لومهم على الإعراض عن الحكم الشرعي : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : علة ، أخرجت القلب عن صحته وأزالت حاسته ، فصار بمنزلة المريض ، الذي يعرض عما ينفعه ، ويقبل على ما يضره . (أَمِ ارْتَابُوا) أي : شكوا ، وقلقت قلوبهم من حكم الله ورسوله ، واتهموه أنه لا يحكم بالحق . (أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) أي : يحكم عليهم حكما ظالما جائرا ، وإنما هذا وصفهم (بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، وأما حكم الله ورسوله ، ففي غاية العدالة والقسط ، وموافقة الحكمة (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ، وفي هذه الآيات ، دليل على أن الإيمان ، ليس هو مجرد القول حتى يقترن به العمل ، ولهذا نفى الإيمان عمن تولى عن الطاعة ، ووجوب الانقياد لحكم الله ورسوله في كل حال ، وأن من ينقد له دل على مرض في قلبه ، وريب في إيمانه ، وأنه يحرم إساءة الظن بأحكام الشريعة ، وأن يظن بها خلاف العدل والحكمة . ولما ذكر حالة المعرضين عن الحكم الشرعي ، ذكر حالة المؤمنين الممدوحين ، فقال : (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) حقيقة ، الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم حين يدعون إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ، سواء وافق أهواءهم أو خالفها ، (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أي : سمعنا حكم الله ورسوله ، وأجبنا من دعانا إليه ، وأطعنا طاعة تامة ، سالمة من الحرج . (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حصر الفلاح فيهم ، لأن الفلاح : الفوز بالمطلوب ، والنجاة من المكروه ، ولا يفلح إلا من حكم الله ورسوله ، وأطاع الله ورسوله ، ولما ذكر فضل الطاعة في الحكم خصوصا ، ذكر فضلها عموما ، في جميع الأحوال ، فقال : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فيصدق خبرهما ويمتثل أمرهما ، (وَيَخْشَ اللَّهَ) أي : يخافه خوفا مقرونا بمعرفة ، فيترك ما نهى عنه ، ويكف نفسه عما تهوى ، ولهذا قال : (وَيَتَّقْهِ) بترك المحظور ، لأن التقوى -عند الإطلاق- يدخل فيها ، فعل المأمور ، وترك المنهي عنه ، وعند اقترانها بالبر أو الطاعة - كما في هذا الموضع - تفسر بتوقي عذاب الله ، بترك معاصيه . (فَأُولَئِكَ) الذين جمعوا بين طاعة الله وطاعة رسوله ، وخشية الله وتقواه ، (هُمُ الْفَائِزُونَ) بنجاتهم من العذاب ، لتركهم أسبابه ، ووصولهم إلى الثواب ، لفعلهم أسبابه ، فالفوز محصور فيهم ، وأما من لم يتصف بوصفهم ، فإنه يفوته من الفوز بحسب ما قصر عنه من هذه الأوصاف الحميدة " انتهى تفسير السعدي . وتذكري – يا أمة الله - أن الدنيا أنفاس معدودة ، لا يدري المرء فيها متى يحين أجله ، فأَوْلى به أن يستعد لقضاء الله بما يرضيه ، لا بما يسخطه ويغضبه . واعلمي أن الشيطان ما يزال يملي لك التسويف والتأجيل حتى يحدث لك ما يمنعك من طاعة الله ، فقد سخَّر نفسه للإغواء ، ولن يترك فرصة يحرم فيها المؤمن من الفضل إلا وكان لها بالمرصاد ، ولهذا قال بعض السلف : احذروا سوف ، فإنها جند من جند إبليس !! . أتيها المسلمة ، يا أمة الله : إن الحجاب شرف وعزة ، وهو قبل ذلك سبب حلول الرحمة والرضوان ، يقول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) الأحزاب/59 فلا تستصغري في نفسك قطعة القماش تلك ، فهي تخفي وراءها طهرا وعفة وخلقا وأدبا ، وهي هدي أمهات المؤمنين ونساء الصالحين ، هدي خديجة وفاطمة وعائشة وحفصة وأم سلمة وسائر الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله . يا أمة الله : إن مما يدمي القلب أن نرى أفواج الفتيات المسارعات إلى التبرج والسفور ، لا تلوي إحداهن على خُلُق ، ولا تستحي من الخَلق ، ولا تتردد في كشف مفاتنها وإبداء زينتها ، مخالفةً فطرةَ الحياء التي فطر الله النساء عليها ، ولكنها – بتزيين الشيطان لها – تقوى على ذلك ، وتتفنن في المعصية . فهل يبقى بعد ذلك سبب للخجل من لبس الحجاب أو النقاب ؟ وهل نرضى أن يجترئ أهل المعصية بمعاصيهم ، ويستحيي أهل الطاعة بطاعتهم وعفتهم وطهارتهم ؟!! وهل هانت في أنفسنا أوامر الله حتى نجعلها عرضة لأهواء الناس ونظراتهم . إن أول وأهم خطوة في لبس الحجاب هي القناعة بفرضيته ، والتسليم لأمر الله بحتميته ، فليس للمؤمنة فيه خيار ، فالله سبحانه وتعالى يقول : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ) الأحزاب/36 ثم عودي نفسك على تجاهل نظرات الناس وكلماتهم ، فإرضاء الناس غاية لا تدرك ، ومن راقب الناس مات غما ، وأيقني أن الله سبحانه وتعالى راض عنك بطاعتك ، وهو مطلع على ما تتعرضين له في سبيل استقامتك ، وسيجعل لك بعد عسر يسرا . يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( مَنِ التَمَسَ رِضَاءَ اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ ، وَمَنِ التَمَسَ رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ ) رواه الترمذي (2414) وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2311) وقد كتبت عائشة رضي الله عنها بهذا الحديث إلى معاوية ، بعد أن طلب منها النصيحة ، وكتبت إليه مرة أخرى فقالت : أما بعد ، فاتق الله ، فإنك إذا اتقيت الله كفاك الناس ، وإذا اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئا ، والسلام . فتذكري أن الإنسان مرتهن بعمله ، وأنه إذا أسلمه الناس إلى قبره ، وأهالوا التراب على جسده ، فلن يجد في شيء أنيسا ولا جليسا إلا عمله الصالح ، وتنقطع عنه جميع الأسباب حينئذ إلا أسباب الخالق عز وجل ، فليستعد كل امرئ منا لذلك الموقف العظيم ؟! يقول الله عز وجل : ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ . لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) عبس/34-37 ويقول سبحانه : ( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ) الزخرف/67 فإياك أن تكوني من الغافلين ، وإياك أن تستعملي التسويف والتأجيل ، وبادري بالخير قبل فوات الأوان ، فالدنيا أيام فانية ، وشهوات زائلة . نسأل الله تعالى لنا ولك الهداية والثبات في الدنيا والآخرة . ويمكنك مراجعة الأسئلة : (11967) ، (13998) ، (69804) والله أعلم .