تكتلات الاقتصادية رغم أن التكتلات الاقتصادية ظاهرة قديمة قدم المجتمعات الإنسانية ذاتها وأنماط التبادل المختلفة القائمة فيما بينها، فإن الحديث عن هذه الظاهرة، رغم قلته وندرته، هو حديث معاصر يرتبط بدرجة أو بأخرى بالنصف الثاني من القرن العشرين.
فمما لاشك فيه أن جوهر التكتلات الاقتصادية هو التعاون والتكامل الإنسانيين، وهو الأمر الذي يعني أننا أمام ظاهرة قديمة قدم الإنسانية، وإن كانت قد أخذت أشكالا وتجليات مختلفة أكثر تعقيدا وأكثر تقنينا. فما كان يقوم به البشر عبر علاقاتهم اليومية العفوية من تعاون وتكامل أضحى اليوم يتم من خلال الاتفاقيات والمقررات القانونية المحددة لكافة الأطراف المشتركة ضمن هذه الاتفاقيات والتكتلات الاقتصادية المختلفة.
وتشير التكتلات الاقتصادية إلى تلك المحاولات التي تتم بين أكثر من دولة عبر فترات زمنية ممتدة وضمن حيز جغرافي واحد من أجل تفعيل الجوانب والممارسات والأنشطة الاقتصادية فيما بينهم. من هنا فإن ظاهرة التكتلات الاقتصادية عملية متواصلة وممتدة عبر الزمن، وليست منجز نهائي.
ويعني ذلك أن التكتلات الاقتصادية ليست وليدة قرارات فورية وفوقية بقدر ما أنها وليدة عمليات ممتدة تخضع للصواب والخطأ إلى أن تصل لمرحلة مقبولة من النجاح والاستقرار النسبيين.
وعلينا هنا أن نضع في الاعتبار أن التكتلات الاقتصادية لا تعمل في فراغ بدون منافسة أو صراع، لكنها تعمل من خلال تغيرات عالمية تؤثر على عمل هذه التكتلات إن بالسلب أو بالإيجاب؛ وهو الأمر الذي يجعلنا نرى أن ظاهرة التكتلات الاقتصادية عملية متواصلة، ترتبط بآليات عديدة من المتابعة والمراقبة والتطور.
كما أن ظاهرة التكتلات الاقتصادية تتجاوز بنية الدولة كوحدة جغرافية واحدة لتشمل العديد من الدول. ويعني ذلك أن الحد الأدنى لنشأة أي تكتل اقتصادي هو دولتين على الأقل. وفي العديد من الدول التي تنتهج النهج الفيدرالي يمكن الحديث عن تكتل اقتصادي فيما بين أجزاء ومناطق الدولة الواحدة، لكن هذا النوع من التكتلات يظل مرتبطاً بسيادة الدولة الواحدة وقوانينها الخاصة بها.
قع ظاهرة التكتلات الاقتصادية ضمن حدود إقليمية معينة؛ حيث يمكن الحديث عن تكتل اقتصادي لشمال أميركا، أو تكتل اقتصادي أوروبي أو آسيوي أو أفريقي. فلا يمكن تحقيق تكتل اقتصادي بين مناطق جغرافية متباعدة لا يوجد بينها رابط وحدود جغرافية متلاصقة.
فالحديث عن تكتل اقتصادي يعني حرية ممارسة الأنشطة الاقتصادية والتبادل التجاري والتخفيف من تأثيرات القيود الجمركية المختلفة؛ وهو الأمر الذي يصب في النهاية نحو تدعيم عملية الالتصاق الجغرافي والتواصل المكاني. كما أن ظاهرة التكتلات الاقتصادية محكومة أيضاً بالقوانين والمعاهدات عبر الدولية التي تحدد وظائف وسلوكيات وممارسات كل طرف من الأطراف المشاركة في تلك التكتلات الاقتصادية.
وأخيرا، فإن الهدف من الدخول في مثل هذه التكتلات هو تفعيل الجوانب الاقتصادية فيما بين الأطراف المشاركة، وهو الأمر الذي يعظم من الفوائد الاقتصادية المتحققة من خلال الاندماج في مثل هذه التكتلات.
إن تاريخ ظهور هذه التكتلات عبر القرن العشرين وحتى الآن يكشف عن مجموعة من الشروط اللازمة، المسبقة والضرورية، لقيام هذه التكتلات الاقتصادية، بل ولضمان نجاحها. وتؤكد العديد من التكتلات الاقتصادية التي ظهرت في العقد الأخير من القرن العشرين على أهمية وضرورة وجود مثل تلك الجوانب لنجاح تلك التكتلات واستمرارية وجودها.
ويمكن أن نشير هنا لبعض التجارب الناجحة قبل الإشارة إلى بعض العناصر الهامة التي جمعت بين هذه التجارب.
يأتي في صدارة هذه التكتلات الوحدة الأوروبية التي بدأت مع إطلاق معاهدة ماستريخت عام 1991، واستطاعت تحويل أوروبا المشتتة والمنقسمة على ذاتها بعد حربين عالميتين داميتين إلى اتحاد أوروبي يأتي في طليعة الاتحادات الاقتصادية المهيمنة عالميا والأكثر تأثيراً كونيا.
ويلي ذلك إنشاء منظمة النافتا NAFTA الخاصة بالتجارة الحرة لدول شمال أميركا والتي تشمل كلا من الولايات المتحدة الأميركية وكندا والمكسيك. ولم تكن آسيا بعيدة عن تلك التكتلات الاقتصادية العالمية، بل إنها كانت أقدم بالنظر لظهور تلك التكتلات الاقتصادية.
حيث شهدت تكتلين اقتصاديين هامين؛ أولهما جاء تحت مسمى رابطة دول جنوب شرق آسيا المعروفة اختصارا باسم الآسيان ASEAN والتي تأسست عام 1967، وثانيهما منظمة التعاون الاقتصادي لآسيا الباسيفيكية والمعروفة اختصار باسم إيبيك APEC، والتي ظهرت عام 1989.
ويلاحظ في كل التكتلات الاقتصادية السابقة أنها اتسمت بالعديد من الأبعاد والمحددات التي أدت لنجاحها من جانب، واستمراريتها من جانب آخر. وهو الأمر الذي يجعل من هذه التجارب التجمعية أمثلة جيدة يمكن الاحتذاء والاستهداء بها عند تأسيس أي تكتل اقتصادي جديدة، وبشكلٍ خاص في العديد من دول العالم الثالث النامية في أميركا اللاتينية وإفريقيا، واضعين في الاعتبار في الوقت نفسه الفروق النسبية والتاريخية والجغرافية بين تكتل وآخر.
من أبرز الملامح والمحددات المرتبطة بهذه التكتلات تغليب المصالح الاقتصادية على الاختلافات السياسية. فمن الواضح أن المشاركين في مثل هذه التكتلات الاقتصادية ينحون خلافاتهم السياسية جانباً وينظرون إلى الأمر بعين المصلحة الاقتصادية المباشرة المتحققة من جراء الاندماج في مثل هذه التكتلات.
والمثال الواضح على ذلك ما قامت به الدول الأوروبية صاحبة التاريخ العدائي الطويل فيما بينها، حيث آثرت ألا تنظر للوراء مصوبة عينيها نحو المستقبل بغض النظر عن عداءات وصراعات الأمس القريب.
يرتبط ما سبق بعقلانية تشكيل وتأسيس التكتلات الاقتصادية، حيث يتم توزيع الأدوار والوظائف بما يتناسب مع طبيعة كل عضو، وما يضيفه من مزايا للتكتل ككل. إن التكتلات الاقتصادية المعاصرة لا يمكن لها أن تتم بدون قدر كبير من الوفاق والتعاون بين أطراف التكتل كاملة.
وهو وفاق وتعاون حقيقي وليس شكليا؛ حيث يعبر عن ضمانة أساسية تتعلق بأهمية كل عضو ضمن التكتل الكلي، وبما يضيفه هذا العضو لباقي أعضاء التكتل، ومن إحساس هذا العضو المشارك ذاته بما يستفيده من اندماجه ضمن هذا التكتل.
وتكشف تجارب التكتلات الاقتصادية الرائدة تدرجها في تحقيق الأهداف التي وضعتها في ميثاق تأسيسها. فلم تبدأ مثل هذه التكتلات بطموحات جامحة بقدر ما بدأت بطموحات محدودة وصغيرة وانتقلت منها إلى ما هو أصعب وأكثر طموحا.
والمثال على ذلك الاتحاد الأوروبي الذي بدأ بخمس عشرة دولة ووصل الآن ليشمل القارة الأوروبية بأكملها. إن من الضروري البدء بالطموحات المتواضعة عند البدء بتأسيس أي تكتل، حيث تمثل تلك الخطوات البسيطة القاعدة التي تتشكل عبرها الطموحات الهائلة والشاملة.
وعلى ذكر الطموحات والتدرج بها من البسيط إلى المركب، فإن التكتلات الاقتصادية تمثل المدخل البسيط والمباشر للبدء في تحقيق كافة أشكال التكتلات الأخرى، والأكثر صعوبة مثل التكتلات السياسية والثقافية والإعلامية. إن البدء بما يحقق مصالح السواد الأعظم من الشعوب المندرجة ضمن تكتل اقتصادي بعينه يساعد لا محالة على قبول الاندماج السياسي والثقافي.
ورغم أننا نفصل هنا بين مستويات التكتل المختلفة، إلا أن واقع الأمر يكشف أنه لولا وجود درجة ما من الانسجام السياسي والثقافي والإعلامي فإن معظم التكتلات الاقتصادية ما كانت لتنجح ولباءت بالفشل الذريع. وربما يمنحنا مرة أخرى مثال الاتحاد الأوروبي دليلا هاما على أن الانسجام السياسي والثقافي والإعلامي يلعب دورا كبيرا في نجاح الانسجام الاقتصادي.
إن ظاهرة التكتلات الاقتصادية لم تعد ترفا أو مشروعا سياسيا دعائيا بقدر ما أصبحت متطلبا حياتيا هاما. وتلعب هذه الظاهرة دوراً هاماً في مساعدة الدول النامية على وجه الخصوص في أن تحافظ على أمنها من ناحية، وعلى أن تقلل مخاطر العولمة والقوى الاقتصادية الهائلة والشركات المتعددة الجنسية من ناحية أخرى.