بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رمضان موسم البضاعة الرابحة والكِفة الراجحة،ولما حباه الله تعالى من المميزات فهو مدرسة لإعداد الرجال،ولما يسر الله تعالى فيه،من أسباب الخيرات،وفعل الطاعات،فالنفوس فيه مقبلة،والقلوب إليه والهة،تصفد فيه مردة الشياطين،فلا
يصلون إلى ما كانوا يصلون إليه في غير رمضان،وتفتح فيه أبواب الجنان،وتغلق أبواب النيران،ولله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار،ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر،فما أعظمها من بشارة،لو تأملناها بوعي وإدراك لوجدتنا
مسارعين إلى الخيرات،متنافسين في القربات،هاجرين للموبقات،تاركين للشهوات،فرمضان فرصة للتغيير،ليصبح العبد من المتقين الأخيار،ومن الصالحين الأبرار،يقول الله تعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)البقرة،فقوله(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)لفرضية الصيام ببيان فائدته الكبرى،وحكمته العظمى،وهي تقوى الله،والتي سأل أميرُ المؤمنين عمرُ رضي الله عنه الصحابيَ الجليل،أبيَ بن كعب رضي الله عنه عن معنى التقوى ومفهومها،فقال يا أمير
المؤمنين،أما سلكت طريقا ذا شوك،قال،بلى،قال،فما صنعت،قال،شمرتُ واجتهدت ،أي اجتهدتُ في توقي الشوك والابتعاد عنه،قال أبي،فذلك التقوى،حذرٌ دائم ، وتوق لأشواكِ الطريق ؛طريقِ الحياة الذي تتجاذبُه أشواكُ الرغائب
والشهوات،وأشواك الفتن والموبقات،لا تحقـرن صغيرةً إن الجبال من الحصى،قال علي رضي الله عنه وهو يعبر عن التقوى،هي الخوفُ من الجليل،والعملُ بالتنزيل،والقناعة بالقليل،والاستعدادُ ليوم الرحيل،هذا مفهومها،فأين نحن من هذه
المعاني المشرقة المضيئة،لقد كان المجتمع الإسلامي الأول مضرب المثل في نزاهته،وعظمة أخلاقه،وتسابقِ أفراده إلى مرضاة ربهم جل جلاله،وتقدست أسماؤه،وكانت التقوى سمةً بارزة في محيا ذلكِ الجيلِ العظيم الذي سادَ الدنيا بشجاعته
وجهاده،فقد كان إمام المتقين رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام،قمة في تقواه وورعه،وشدةِ خوفهِ من ربه العظيم،فكان يقوم الليل يصلي ويتهجد حتى تفطرت قدماه الشريفتان،وكان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من النشيج والبكاء،وهو الذي غفر له ذنبه ما تقدم وما تأخر،
وأما صاحبه وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكان يقول،يا ليتني كنت شجرةً تعضدُ ثم تؤكل،وكان له خادمٌ يأتيه بالطعام،وكان من عادةِ الصديق أن يسأله في كل مرة عن مصدر الطعام،تحرزاً من الحرام،فجاءه خادمُه مرةً بطعامه،
فنسي أن يسألَه كعادته فلما أكل منه لقمة قال له خادمه،لم لم تسألني،يا خليفةَ رسولِ الله،كسؤالكِ في كلِ مرة،قال أبو بكر،فمن أين الطعام يا غلام،قال،دفعه إليَّ أناس كنت أحسنت إليهم في الجاهلية بكهانةٍ صنعتها لهم،وهنا ارتعدت فرائص
الصديق،وأدخل يده في فمه،وقاء كل ما في بطنه وقال،والله لو لم تخرج تلك اللقمة إلا مع نفسي لأخرجتها،كل ذلك من شدةِ خوفه وتقواه وتورعه عن الحرام،
وأما خوف عمر رضي الله عنه وشدة تقواه فعجب من العجب ، سمع قارئاً يقرأُ قولَه تعالى(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً)الطور،فمرض ثلاثاً يعـودهُ الناس،بل إنه قرأ مرةً قولَه تعالى(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)الصافات،فمرض شهراً يعودُه الناسُ مريضاً،
وأما عليٌ رضي الله عنه، فكان يقبض لحيته في ظلمة الليل ويقول،يا دنيا غُري غيري أليَّ تزينت أم إليَّ تشوقتِ طلقتك ثلاثاً لا رجعةَ فيهن زادُك قليل وعمرُك قصير،
هارون الرشيد الخليفةُ العباسي، الذي أذل القياصرة وكسر الأكاسرة،خرج يوماً في موكبه فيقول له يهودي،يا أمير المؤمنين،اتق الله،فينزل هارون من مركبه ويسجد على الأرض لله رب العالمين في تواضعٍ وخشوع ، ثم يأمرُ باليهودي
ويقضي له حاجته،فقال هارون الرشيد،لما سمعت مقولتَه تذكـرت قوله تعالى(وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ)البقرة،فخشيت أن أكون ذلك الرجل،وكم من الناس اليوم من إذا قيل له اتق الله احمرت عيناه ،وانتفختْ أوداجه،غضباً وغروراً بشأنه،قال ابن مسعود رضي الله عنه،كفى بالمرء إثماً أن يقال له،اتق الله فيقول،عليك نفسك،مثلك ينصحني،
ورمضان فرصة للتغيير،لمن كان مفرطاً في صلاته،فلا يصليها مطلقاً،أو يؤخرها عن وقتها,أو يتخلف عن أدائها جماعة في المسجد،ليعلم المتهاون في صلاته،فهو آيل إلى نهاية بائسة،وليل مظلم،وعذاب مخيف،جاء في الحديث عن سمرة بن
جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم،في الرؤيا قال(أما الذي يثلغ رأسه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة)رواه البخاري،وفي مثل هذا الشهر المبارك أعد النظر في واقعك،ومجريات حياتك،ومراجعة
نفسك،ألا تخدعك المظاهر،ولا يغرك ما أنت فيه ، من الصحة والعافية والشباب والقوة ، فما هي إلا سراب بقيعة،يحسبه الظمآن ماءً،سرعان ما يتلاشى،وينطفئ ويزول،فالصحة سيعقبها السقم،والشباب يلاحقه الهرم،والقوة آيلة إلى
الضعف،فاستيقظ من غفلتك،فالحياة قصيرة وإن طالت،والفرحة ذاهبة وإن دامت،واجعل من رمضان فرصة للمحافظة على هذه الصلاة العظيمة ، فقد وفقك الله للصلاة مع الجماعة،واعزم أن يكون هذا الشهر المبارك بداية للمحافظة على الصلاة ، والتبكير إليها،يقول الله تعالى في وصف المؤمنين(الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ)المعارج،ويقول سبحانه(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ،أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)المعارج،
فليكن هذا الشهر بداية للباس التقوى،ولباس التقوى خير لباس لو كانوا يعلمون(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ،فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)القمر،
اللهم اجعلنا من الفائزين برمضان،واجعلنا ممن قام رمضان إيماناً واحتساباً فغفرت له ما تقدم من ذنبه.