أنا شاب ملتزم ، ولي أخ في الله أحبه فيه ، رأيته عند إشارة المرور صدفة وقد ارتفع صوت الأغاني من سيارته ، فناصحته بطريقة مباشرة دون أن أذكر له أني رأيته ، فأبدى اعتذاره وتوبته ، وقام - كما يقول - بإزالة الأغاني من سيارته ومن جهاز الحاسب كذلك ولله الحمد ، ولكن بعد أيام أراه يشارك في بعض المنتديات بمشاركة ماجنة ويكتب اسم الأغنية ، وقد عرفته بلقبه الذي يكنى به ورمزه ، كما أنه في بعض الأحيان يصرح بمحادثته في الإنترنت لقريبات له لسن محارم له .
فهل لي أن أقاطعه ، أو أجاريه على ظاهره ، علماً بأن النصيحة يقابلها بالقبول دون أن يعمل بها ، وعلما بأن ظاهره الالتزام ، وقد عرفه أصحابه بذلك ، إلا أني أعلم عنه ما لا يعرفون ؟.
الحمد لله
الذي يعصي الله تعالى إما أن يكون مظهراً لمعصيته أو يكون مستتراً بها ، فإن كان مظهراً لها فإنه يُهجر ـ ولو طالت المدة ـ إن كان الهجر يردعه عن معصيته ، أو يحمله على التقلل منها .
وإن كان مستتراً بها وقدِّر لك أن تراها فيُنكر عليه سرّاً ويُنصح ويُستر عليه :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ) متفق عليه .
ورأى محمد بن المنكدر رجلا واقفا مع امرأة يكلمها ، فقال : ( إن الله يراكما ، سترنا الله وإياكما !! ) .
وفي مثل هذه الحالة يشرع لك أيضا أن تهجره وحدك ، إن كان ذلك الهجر يؤثر فيه ، ولا يترتب عليه مفسدة أكبر ؛ كأن يجاهر بالمعصية ، بعدما كان مستترا بها ، أو يزيد منها بعد إقلال ، أو أن يفعل معصية أخرى هي أشد مما هجرته من أجله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
فمن أظهر المنكر وجب عليه الإنكار وأن يهجر ويذم على ذلك ، فهذا معنى قولهم " من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له " ، بخلاف من كان مستتراً بذنبه مستخفياً فإن هذا يُستر عليه ، لكن ينصح سرّاً ، ويَهجره مَن عرف حاله حتى يتوب ويَذكر أمره على وجه النصيحة .
" مجموع الفتاوى " ( 28 / 220 ) .
وبوَّب البخاري رحمه الله على حديث كعب بن مالك وقصة تخلفه عن تبوك بقوله :
" قوله باب ما يجوز من الهجران لمن عصى " .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
" قوله باب ما يجوز من الهجران لمن عصى " : أراد بهذه الترجمة بيان الهجران الجائز ؛ لأن عموم النهي مخصوص بمن لم يكن لهجره سبب مشروع ، فتبين هنا السبب المسوِّغ للهجر وهو لمن صدرت منه معصية ، فيسوغ لمن اطَّلع عليها منه هجره عليها ليكف عنها .
" فتح الباري " ( 10 / 497 ) .
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ قَرِيبًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ خَذَفَ قَالَ : فَنَهَاهُ ، وَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْخَذْفِ ، وَقَالَ : إِنَّهَا لا تَصِيدُ صَيْدًا وَلا تَنْكَأُ عَدُوًّا وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ ، قَالَ : فَعَادَ ، فَقَالَ : أُحَدِّثُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ ثُمَّ تَخْذِفُ لا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا . رواه البخاري ( 5162 ) ومسلم ( 1954 ) .
قال النووي – رحمه الله - :
فيه هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنَّة مع العلم ، وأنه يجوز هجرانه دائماً ، والنهى عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا ، وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائماً ، وهذا الحديث مما يؤيده مع نظائر له ، كحديث كعب بن مالك ، وغيره . " شرح مسلم " ( 13 / 106 ) .
فالواجب عليك ـ أخي الكريم ـ تجاه صاحبك النصح والتذكير والوعظ والتخويف بالآخرة ، فإن استجاب فالحمد لله ولك أجره ، وإن استمر على معصيته مستتراً متخفيّاً ، فإنه يستحق الهجر منك إن رأيتَ أن هجره أنفع له ، فإن لم يكن هجرك نافعاً له فلا نرى لك هجره ، بل نرى مداومة مصاحبتك له عسى أن ينتفع بذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم ؛ فان المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله ، فان كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضى هجره إلى ضعف الشر وخفيته : كان مشروعا ، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك ، بل يزيد الشر ، والهاجر ضعيف ، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته : لم يشرع الهجر ، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر .
والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين . " مجموع الفتاوى " ( 28 / 206 ) .
وننبهك ـ أخيرا ـ إلى أنه من الممكن أن تنصحه وتدله على الخير ، من غير أن تواجهه بما فعل ، وبخصوص مشاركاته في المنتديات ، فمن الممكن أيضا أن تنصحه ، وتكتب له مشاركة ، أو ترسل له على بريده ، إن أمكنك ، من غير أن تعرفه بشخصك ، إن كان ذلك يقلل من مجاهرته بالمعصية ، وارتكابه لها .
هدانا الله وإياك لما يحبه ويرضى ، وجعلنا جميعا مفاتيح للخير ، مغاليق للشر .
والله أعلم .